أكدت الدراسات التي أُنجزت في السنوات الماضية أنّ بيروت كانت مركزاً سكنيّاً منذ أكثر من نصف مليون سنة. فإنسان الكهوف كان يأتي موسمياً إلى هذه البقعة الخضراء، يصطاد ويعيش لفترة من الزمن ثمّ يرحل مخلّفاً أعماله المنحوتة في الصوان
جوان فرشخ بجالي
كثيراً ما حاول علماء الاجتماع إعطاء تفسير للكثافة السكانية في بيروت، وكثيراً ما حاول آخرون شرح عشق المسافرين والرحّالة لهذه المدينة. منهم من قال إن السر هو الطقس وجغرافية الأرض، ومنهم من قال إنه أهلها، ومنهم من قال إنه المزيج. بالنسبة إلى علماء ما قبل التاريخ، تلك الأسئلة لم تعد مطروحة، فعلى أرض هذه المدينة عثر الإنسان القديم على المتطلّبات الأساسية لحياته، فارتادها موسمياً، وعلى الأرجح بكثافة منذ نحو نصف مليون سنة. وتشرح عالمة آثار ما قبل التاريخ، كورين يزبك، «أن الإنسان القديم عثر في بيروت على المتطلّبات الأساسية لحياته، من مأكل ومشرب وحجارة صوان. فاعتاد أن يرتادها موسمياً، وعلى الأرجح خارج فصل الشتاء حين لم يعد يحتاج إلى الكهوف لحمايته من تغيّرات الطقس. فأتى الإنسان إلى بيروت لمدة امتدّت لأكثر من 300.000 سنة». وهذا ما أثبتته الاكتشافات التي جرت في السنوات الثلاث الماضية خلال حفريات الإنقاذ التي أجرتها فرق المديرية العامة للآثار في شتّى أرجاء العاصمة.
وتشرح الدكتورة يزبك، وهي المستشارة العلمية للمديرية العامة للآثار في فترة ما قبل التاريخ أن التنقيبات الأخيرة في المواقع الثلاثة: الغبيري ـــــ طريق المطار، المتحف ـــــ طريق الشام، ومنطقة الجميزة ـــــ مار مارون سمحت بتكوين فكرة عن بيروت ما قبل التاريخ. ففي منطقة الغبيري (حيث أُحدثت حفرية لتوسيع الطريق) والجميزة (في عقار خاص) اكتشف علماء الآثار مشاغل للصوان يعود تاريخ بعضها إلى 250.000 سنة. تقول يزبك إن تلك كانت «محطات موسمية استعملها الإنسان مكاناً لإقامته (على الأرجح أنه بنى هناك أكواخاً أو خيماً للمبيت، واستعمل جزءاً منها مشغلاً للصوان، أي منطقة تُستخرج منها أحجار الصوان لتستخدم رؤوس حراب الصيد وأدوات حياته اليومية). وتقول يزبك إن تلك «المنطقة كانت، على الأرجح، أرض مستنقعات قريبة من شاطئ البحر، ما يسهّل عملية الصيد من جهة، والحصول على مياه عذبة من جهة أخرى. إضافة إلى قربها من سواحل بيروت، حيث تكثر أحجار الصوّان».
تؤكد يزبك أن أحد الأسباب الثلاثة لسكن إنسان ما قبل التاريخ منطقة بيروت هو وجود حجر الصوّان ذي الجودة العالية على شواطئها. فمن رأس بيروت إلى منطقة الروشة، كانت صخور الصوان موجودة على الشاطئ. وما كان على هذا الإنسان القديم إلا التقاطها من الأرض ورفعها إلى مشاغله (التي لا تبعد كثيراً)، وصقل هذه الحجارة لتغدو رؤوس حراب للصيد. وصوان بيروت خاص ومميّز، فلونه بنيّ مثل «الشوكولاته»، وفيه بقع بيضاء. ويعرف في المنشورات العلمية باسم «صوّان رأس بيروت».
وأوّل من درس صوان بيروت وصنّفه هم الآباء اليسوعيّون، الذين كانوا أوّل من درس وجمع قطع الصوان في معاهدهم، ما سمح لاحقاً بتأسيس متحف للبنان ما قبل التاريخ في الجامعة اليسوعية. وكان الأب فليش، الذي درس خصوصاً منطقة سكن إنسان ما قبل التاريخ في بيروت، قد حدّد منطقة الروشة ـــــ المطار، بما سمّاه «رمال بيروت»، نسبة إلى ارتفاع مستوى الرمال هناك. وإن كانت نسبة الأملاح العالية في رمال بيروت لا تؤثر فعلاً في حجر الصوان، فإنها تفتّت كل مادة أخرى متروكة في
داخلها. ما يفسّر غياب العظام أو جذوع الشجر مثلاً. وهذا ما يصعّب دراسة بيئة بيروت في تلك الفترة. لكن، تشير يزبك، إلى أنه على الأرجح أن طقس بيروت لم يكن مختلفاً كثيراً عما هو اليوم. وما هو مؤكد أن البيئة كانت مختلفة.
فقد كانت لنهر بيروت روافد عديدة كوّنت مستنقعات في بعض المناطق. وعلى الأرجح أن المنطقة كانت خضراء وغنية بالأشجار المثمرة والحيوانات البرّية التي يسهل اصطيادها. وهذا ما حوّل المنطقة إلى «أرض مكتظة» بإنسان الكهوف الذي اعتاد ارتيادها موسمياً. هنا تجدر، الإشارة إلى أن آثار بيروت التي تعود إلى فترات ما قبل التاريخ دفينة في الأرض وعلى عمق يراوح بين 6 أمتار و10.
وتقول يزبك: «تاريخ بيروت معروف بسطوره العريضة من النصوص التاريخية التي تركتها الشعوب القديمة. لكن فترة ما قبل التاريخ في بيروت مجهولة تماماً، وتبقى معرفتها رهناً بالحفريات الأثرية التي تجري اليوم على أرضها».
والجدير ذكره أن الحفريات الثلاث التي أشرفت عليها يزبك ودرست مقتنياتها جرت في عقارات خاصة وفي مشاريع قيد الإنشاء. وكانت تلك التنقيبات حفريات إنقاذ أنجزها فريق علمي تحت إشراف المديرية العامة للآثار.