سعد الله مزرعاني *لقد نقلت وسائل الإعلام العالمية عناوين المواضيع التي جرى التطرّق إليها وعناوين الاتفاقات التي جرى التوصّل إليها (ولو بشكل أوّلي أو مبدئي). وهي نقلت، إلى جانب ذلك، صورة الرئيس الأميركي وهو يتناول، بتواضع ظاهر، طعام الإفطار إلى مائدة الرئيس الروسي السابق (ورئيس الوزراء الحالي) فلاديمير بوتين. نعم، فلاديمير بوتين الذي كان قد وصفه أحد أركان إدارة بوش بأنّه مجرّد «جاسوس سابق» في الاستخبارات السوفياتية K.G.B. («جهاز أمن الدولة» المعروف!).
والواقع أنّ دماثة أوباما وجاذبية حديثه ليستا الأساس في حصول الزيارة وفي إضفاء الطابع الودي عليها. سبب الزيارة هو أمر آخر تماماً: إنّه حاجة الولايات المتحدة الأميركية إلى معالجة عدد من صعوباتها المتراكمة ومحاولة دفع القيادة الروسية إلى تقديم يد العون في هذا الصدد. ويستدعي هذا الأمر العودة إلى المنطلقات، وفيها أنّ سياسة أوباما وتوجّهاته، إنّما هي ثمرة لإخفاقات (ولمحاولة معالجة إخفاقات) سلفه جورج بوش على وجه التخصيص. ابتداءً من هنا يجب الانطلاق في محاولة قراءة أهداف زيارة الرئيس الأميركي إلى موسكو ونتائجها وعدم تردّده في تناول الفطور بشكل متواضع وودود في منزل رئيس سابق اتّهمته الإدارة الأميركية السابقة بأنّه مجرّد عميل سوفياتي سابق!
لا بدّ من التذكير، بدايةً، أنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة بلورت سياساتها منذ عهد بوش الأب إلى عهد بوش الابن (أي منذ حرب تحرير الكويت إلى حرب غزو العراق) في «استراتيجية الأمن القومي» التي أعلنها البيت الأبيض، رسمياً في أيلول عام 2002. وقد أعلن بشكل قاطع في هذه الاستراتيجية أنّ الولايات المتحدة التي تمتلك «قوة غير قابلة للتحدي» سترفع مستوى حضورها (وهيمنتها الاقتصادية) إلى ما يوازي قوّتها العسكرية. أي إنّها ستضع قوّتها العكسرية في خدمة مصالحها الاقتصادية. وفي مجرى هذا النهج (الذي اقترن أيضاً بالسعي إلى فرض نمط الحياة الأميركي على شعوب العالم)، كان على روسيا أن تحوّل ترسانتها النووية والعسكرية الهائلة إلى نوع من الخردة غير القابلة للصرف (وفقاً لقواعد القوة الأميركية نفسها). اقتضى ذلك أن تحاصر الولايات المتحدة روسيا سياسياً وعسكرياً. لقد تمدّد حلف شمالي الأطلسي إلى حدودها مباشرةً، بضمّ معظم دول الكتلة السوفياتية السابقة إلى هذا الحلف. كذلك وبتعاون نشيط من جانب كلّ من حكومتي تشيكيا وبولونيا، قرّرت واشنطن نصب درع صاروخية في هذين البلدين لجعل الأمن العسكري الروسي نفسه مهدّداً، ولجعل الترسانة الروسية قليلة الفاعلية إذا لم تصبح عديمة الجدوى بشكل عام.
ووفق سياسة التفرّد والتفوّق والتفاخر هذه، أقدمت واشنطن على محاولة إعادة رسم مصائر منطقة الشرق الأقصى وخرائطها بدءاً من غزو أفغانستان، وصولاً إلى دعم تمرّد الشيشان في قلب روسيا، انتهاءً بغزو العراق ومحاولة وضع اليد على ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم بعد السعودية، بما يؤدّي حتماً إلى تحجيم أثر الثروة النفطية الروسية.
كانت مساعي ومحاولات تدمير روسيا من الخارج، تتسابق مع محاولات ومساعي تدمير روسيا من الداخل. وفي مجرى صراع مرير، برز فلاديمير بوتين محاولاً الدفاع عن وحدة بلده ومصالحها، ولو في الحدود الدنيا التي استدعتها ضرورات التصدّي للتفتّت والتفلّت الخطيرين اللذين ميّزا عهد بوريس يلتسين. وتباعاً، تصاعد الصراع الأميركي مع بوتين بمقدار ما كان يحاول الرجل تجسيد المصالح الأوّلية لبلده ولشعبه في الوحدة الوطنية وفي السيطرة على النهب والفوضى وفي إقامة سلطة توفّر الاستقرار للبورجوازية الناشئة كي تمضي في بناء عناصر اقتصادها وعلاقاتها ومستلزمات ذلك في الحقلين السياسي والاقتصادي والأمني، وفي مجال العلاقات الداخلية والدولية.
فشلت إدارة بوش في فرض استراتيجية الهيمنة والفرض والتوسّع السياسي والاقتصادي بوسائل القوة والغزو والتهديد... وكانت روسيا التي عارضت تلك السياسة، قد بكّرت في إعلان سقوط مشروع الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم. وتحدّث عن ذلك الرئيس الروسي بوتين آنذاك، بأوضح العبارات وأقساها.
لا يمكن فصل الزيارة عن هذا السياق. بل هي تقع في صلب هذا السياق لجهة التعبير عن الفشل، والتفتيش عن صيغ لتداركه عبر معادلات جديدة وتوازنات جديدة وتنازلات أكيدة!
وتشير معطيات الزيارة (ما جرى التفاهم بشأنه بشكل أوّلي، أو ما زال موضع خلاف) إلى أنّ السمة الأساسية لها إنّما تتمثّل في أرجحية التنازل من جانب واشنطن لمصلحة روسيا، لا العكس. ومع أنّ هذه المعادلة ستبقى نسبية، فإنّه يمكن الملاحظة أنّ لروسيا مصلحة حقيقية في عدم استئناف سباق التسلّح الذي فُرض عليها في الحقبة السوفياتية، فمضت إليه باندفاع مخلّ بأولويات تطوّرها الاقتصادي، وبكلفة لا تتلاءم مع قدراتها مقارنةً بدولة منافسة كانت تحصل من خلال الاستغلال والنهب الداخلي والخارجي، على الموقع الأوّل في حجم الاقتصاد على المستوى العالمي.
طبعاً، واشنطن بعد الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة، باتت هي الأخرى، بحاجة إلى تقليص حجم نفقاتها. لكنّ حاجاتها في مجال الأمن أكبر بما لا يُقاس. ومن هنا السعي إلى الحصول على تسهيلات من موسكو في مواجهة «طالبان» في كلّ من أفغانستان وباكستان. هنا يجب أن نلاحظ أيضاً أنّ لموسكو مصلحة في إضعاف متطرّفي «طالبان» شركاء دعاة الانقسام والعنف في الشيشان الروسية.
أما في موضوع إيران وكوريا والشرق الأوسط، فالمسألة لا تتعدّى بين الطرفين التكاذب المتبادل. فلروسيا التزاماتها في إيران (وحتى في كوريا)، ولواشنطن سياساتها الثابتة في دعم العدوانية الصهيونية.
ولن يؤدّي الحوار بين الطرفين إلى توحّد أو حتى تقارب موقفيهما بشأن كلّ من التسلّح النووي الإيراني والكوري، وكذلك إعطاء دور الشريك لروسيا في معالجة أزمة الشرق الأوسط.
نستطيع القول في خلاصة موجزة، إنّ واشنطن باتت تدرك نقاط ضعفها، وخصوصاً في المنطقة التي أرادتها إدارة بوش عنوانًا لتفوّقها الحاسم. ويحاول أوباما تدارك ما أمكن من نقاط الضعف هذه، وعبر أنواع من التعاون لن يصل في المدى القريب إلى حدود التخلي عن التفرّد، وإلى الشراكة. فواشنطن ما زالت عبر إدارتها الجديدة تحمل الأهداف نفسها، وإن بتعقّل وواقعية أكبر. وما سيدفع واشنطن إلى قبول الشراكة، هو المقاومة المستمرة لمخططاتها، ولا سيّما أنّ إدارة أوباما تحاول الخروج (؟) من العراق إلى تورّط أكبر في أفغانستان وباكستان. اللاعب الإضافي والمهم، إذًا، هو الشعوب والدول المتضرّرة من السياسة الأميركية، التي جعل استياؤها ومقاومتها الأميركيين يتساءلون يومًا: «لماذا يكرهوننا». لا تستطيع دماثة أوباما وبلاغته أن تقدّما وحدهما الجواب!
العالم يتغيّر خلافاً لما أرادته كبريات شركات الاحتكار والمال وصناعة الموت الأميركية. ماذا بشأن منطقتنا وحقوقنا وسيادتنا وثرواتنا وكرامتنا؟
* كاتب وسياسي لبناني