هشام نفاع *أضافت المؤسسة الإسرائيلية، في السنوات الأخيرة، شرطاً جديداً لقبول أي تسوية سياسية مع الشعب الفلسطيني، يقضي بـ«الاعتراف بيهودية إسرائيل». وهذا ما يصحّ وصفه بـ«الشرط الاستباقي» الذي يُملي نتائج التفاوض حتى قبل الخوض فيه. يبدو أنه لا حدود للابتكارات التخريبية الإسرائيلية بخصوص تحقيق التسوية. وما عرضه رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في خطابه قبل أسابيع بهذا الشأن، هو مثال جديد.
هذا المطلب الذي يُعتبر استثنائياً، إن لم يكن عجيباً، في منظومة العلاقات الدوليّة، لا ينبع فقط من تأصل الإنغلاق العنصري المتعصب في المؤسسة الإسرائيلية. بل إنه تكتيك سياسي شديد الدّهاء. يُقال هذا انطلاقاً من التوجه الإسرائيلي الرسمي نحو تعريف الدولة كـ«يهودية». فليست المسألة حضارية أو حتى رمزيّة، بقدر ما هي مسألة عدديّة تقاس بأدوات الديموغرافيا: عدد اليهود مقابل عدد الفلسطينيين. فهذه المؤسسة لا تكتفي بمطلب الاعتراف بوجود دولتها على أنه «تجسيد لحق تقرير مصير اليهود»، وهو التسويغ الشائع لوجود الدول القومية الحديثة، بل إنها تطالب العالم بالاعتراف بتعريفها الأيديولوجي لذاتها. بمعنى آخر، هذه المؤسسة تسعى لفرض العقيدة الأساس للحركة الصهيونية على أنها حقّ كوني يجب على الجميع الاعتراف به.
أما المترتّب على هذا، («لو جاءت العتمة على قدّ يد الحرامي»)، فهو أولاً، تنظيف ساحة الحركة الصهيونية مما اقترفته أذرعها المختلفة من تطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني خلال نكبة عام 1948 وبُعيدها. وثانياً، منحها فرصة الادّعاء بأن تطبيق حقوق اللاجئين الفلسطينيين غير ممكن لأنه سيمسّ بيهودية الدولة.
إذاً فالمسألة تتجاوز ساحة المعركة الرمزية، بل تندرج ضمن السياسة الإسرائيلية المخطّطة. ففي جميع المراحل المختلفة منذ النكبة حتى اليوم، ظلّت هناك مسألة واحدة تقلق المؤسسة الإسرائيلية وتؤرقها، هي حقوق اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم بالقوة وبالسلاح من بيوتهم ودمّرت المئات من قراهم. فقد قادت السيرورة التاريخية بمنعطفاتها السياسية المتعددة إلى إجبار المؤسسة الإسرائيلية على الإقرار الرسمي بوجود الشعب الفلسطيني، وبالتالي بحقه في تقرير المصير في دولة مستقلة. مع أنه حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، لم تتعدّ القضية الفلسطينية في طروحات هذه المؤسسة إلحاق بعض ما احتلته من الأراضي الفلسطينية عام 1967 بالأردن وبمصر، وكأنها مسألة ترتيبات حدوديّة لا أكثر. لكن مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، المتوّجة بالانتفاضة الشعبية في كانون الأول 1987، فرضت بقوّة نوعيّة غير مسبوقة، حق هذا الشعب في تقرير مصيره، بحيث لم يعد بإمكان المؤسسة الإسرائيلية مواصلة تجاهله.
وهكذا، فمنذ بدء مسيرة التفاوض الإسرائيلي ــــ الفلسطيني، باتت المؤسسة الإسرائيلية تقرّ (أشدّد: على مستوى التصريح فقط) بإمكانية إقامة كيان فلسطيني (ما!).
ولو أجرينا مسحاً سريعاً للخريطة السياسية الإسرائيلية الراهنة، لأمكننا القول إن غالبية مركباتها باتت تصرّح بذلك، وإن قسراً. لكن المسألة تتجاوز الفعل التصريحي بطبيعة الحال. فالممارسات الإسرائيلية الفعلية تضع علامة سؤال حادّة على النوايا والأهداف المخبّأة خلف جميع التصريحات البروتوكولية. وقد انعكس هذا في عدم احترامها ما وقّعته من اتفاقات، وكذلك في عمليات الاجتياح العسكرية الوحشيّة المتكررة التي حرّكها هدف سياسي هو تقويض البنية المؤسسية السياسية الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية مطلع سنوات الألفين، أو في قطاع غزة لاحقاً، وكل هذا منعاً لنشوء ولو نواة مؤسسية لكيان فلسطيني مستقل. وحتى لو حاججت المؤسسة الإسرائيلية وادّعت موافقتها رسمياً على إقامة كيان فلسطيني مستقل، فستظل هناك حاجة إلى اختراق جدار الصوت التصريحي هذا، وصولاً إلى المضمون. وهو المضمون الذي سيكشفه، بالأساس، الموقف الإسرائيلي الرسمي والفعلي من قضيّة حقوق اللاجئين الفلسطينيين. فحتى اليوم، يقوم التوجّه الإسرائيلي على تفكيك القضية الفلسطينية، بل بعثرتها: من ناحية، تصرّ المؤسسة الإسرائيلية على صيغة المراحل، وهو ما بدأ منذما عُرف بـ«غزة وأريحا أولاً». ومن ناحية أخرى، تنثر ملفّات القضية الفلسطينية على محطات زمنية مستقبلية، تهتم بإرجائها على الدوام بأدوات القوة، العسكرية منها والاستيطانية. هذا ناهيك عن أنها تتوجّه إلى القضية برمتها كما لو أنها بدأت في حزيران 1967، وذلك خدمة لهدفها طيّ الملفات الأقدم والأصعب، ملفات 1948، وأولها ملف اللاجئين.
هناك شكلان للتسوية السياسية المقترحة لما يسمى بالصراع الفلسطيني ــــ الاسرائيلي. (وهي بالمناسبة تسمية إشكالية في أحد أهمّ أوجهها، كونها تفترض وتفرض تكافؤاً من حيث القوّة بين طرفين، مع أن أحدهما هَجّر، احتل واستوطن، بينما الثاني تعرض لنتائج تلك الممارسات العنيفة).
الشكل الأول هو إقامة دولتين مستقلتين، والثاني هو إقامة دولة مشتركة واحدة. هناك نقاشات مختلفة في هذا الشأن، بعضها يتّسم بالطابع الثنائي: «إمّا هذا أو ذاك»، والبعض الآخر يضع المسألة في سياق تاريخي، بمعنى وجوب إنهاء الاحتلال في أراضي 1967 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة أولاً، ومن ثمّ تحقيق مصالحة بين الشعبين (والمصالحة غير التسوية!) لربما تفضي إلى العيش في دولة مشتركة مستقبلاً. وبرأيي، مهما تعدّدت النقاشات في هذا الخصوص، فإن التمسّك بحقوق اللاجئين هو ما يضع جميع هذه النقاشات في نصابها، بل يساهم في التقدّم إلى الأمام نحو توليفة أكثر وضوحاً وقابلية للتطبيق.
بناءً على ما سلف، من المهمّ التعاطي مع إشكالية عدم الوضوح في شكل التسوية الذي ينص على إقامة الدولتين. وهي إشكالية نشأت مع التغيّرات المستجدّة ضمن السيرورة السياسية ــــ التاريخية. فقد رفضت المؤسسة الإسرائيلية هذه التسوية على الدوام حتى سنوات خلت، رغم أنها اشتقاق من الصيغة التي اتُّفق عليها دولياً، متمثلة بقرار التقسيم. ولكن، حين اضطرت لقبولها ولو دبلوماسياً، فقد غيّرت مضمونها، بل قوّضته، حين حوّلت الأمر إلى معادلة شكلية يغيب عنها المتغيّر الأساس: حقوق اللاجئين. وهنا، جاء التشابه في مفردات «حل الدولتين المستقلتين» على ألسنة أطراف مختلفة، لينتج حالة من عدم الوضوح حدّ البلبلة. لأن المتحدّثين المختلفين يقصدون معاني مختلفة. فمضمون «الدولتين» كما أعلنته منظمة التحرير الفلسطينية يختلف جوهرياً عما ترمي إليه أحزاب إسرائيل الصهيونية الكبرى. وقد أدى تجاهل هذا التفاوت الكبير في ما تقصده الأطراف المختلفة من صيغة التسوية، إلى اندلاع نقاشات كثيراً ما اتّسمت بالشكلية، بين أصحاب القضية الواحدة ومناصريها. فبدلاً من أن يتّسم الجدل بمحاولات تفكيرية وتطبيقيّة تهدف إلى استيضاح الممكن في الواقع المعطى، وتشييد رؤية سياسية بناءً عليه، ابتعد الجدل إلى هوامش نظريّة جداً إن لم نقل شبه مثالية (مثالية بالمفهوم الفلسفي، أي مقابل المادّية، وليس بوصفها يوتوبيا). وبدلاً من رؤية الرابط الجدلي بين صيغتي التسوية ضمن منظور تاريخي يمكّن من «وضع المسائل على الأرض»، جرى أدلجة الجدل في ثنائية شبه مطلقة تكاد تكون منزوعة من القراءة السياسية الواقعية الضرورية.
من المهم أن يُطرح السؤال: كيف يمكن تحقيق حقوق اللاجئين الفلسطينيين وتطبيقها في الحالتين، أو في مرحلتي التسوية؟ لقد أصاب كثيرون عندما اعتبروا أن المرحلة الأولى يجب أن تكون الاعتراف الإسرائيلي بالقضية من حيث تحمُّل المؤسسة الإسرائيلية المسؤولية عن نشوئها، وبالتالي عن تبعاتها وعن واجبها في المساهمة في تحقيق حلّها. هناك من يعتقد أن هذا «مستحيل» في إطار طرح الدولتين، وهنا يمكن القول إن رؤية هذه الاستحالة لربما تنبع من عدم ملاحظة الفرق النوعي الذي سيطرأ إذا وصلت المؤسسة الإسرائيلية مرحلة متقدمة من الرّشد السياسي عبر تحمّلها المسؤولية والاعتراف بها. إنّ جميع المشاريع السياسية قد تبدو حلماً في مراحلها الأولى، وهذا ما طغى لعقود طويلة مثلاً في ما يخص إقامة دولة فلسطينية مستقلة. لكن السيرورة التاريخية مركبة دائماً، وبقدر ما تحمل من تعقيدات جديدة فإنها تفتح آفاقاً جديدة أيضاً. في جميع الأحوال، لا تناقض بين تحقيق حقوق اللاجئين والتسوية المتمثلة بدولتين، إلا بالمفهوم الإسرائيلي الرسمي الذي يصرّ على يهودية إسرائيل. أما تغيير زاوية الرؤية فمن شأنه التوضيح للمراقب أن النضال لتغيير الهوية الأيديولوجية لهذه الدولة يرتبط إلى حد بعيد بفتح أفق حقيقي لحل قضية اللاجئين، وبالعكس. إنهما عمليتان مترابطتان. وينطبق هذا أيضاً بخصوص مرحلة محتملة مقبلة من التسوية، أقصد العيش في دولة واحدة بعد تحقيق مصالحة أعمق من الاتفاقيات الرسمية.
ويبقى السؤال: كيف سيكون التطبيق الفعلي لكل هذا؟ وهو دور التفاوض السياسي وحاجته. وهو تفاوض آن أوان إخراجه من مربّعاته القديمة التي اتّسمت بالإرجاء واستبعاد الخوض في المناطق الخطرة.
وتجدر الإشارة إلى أن الادّعاء بأن «المؤسسة الإسرائيلية سترفض»، هو ادعاء إشكاليّ لكونه يصادر الإرادة الفلسطينية مسبقاً، ويلغي معنى النضال ومفهومه! فلم يتحقق شيء في سياق قضية الشعب الفلسطيني سوى بالنضال، حتى حين كانت المؤسسة الإسرائيلية في أعلى درجات تعنّتها. لربما هناك حاجة إلى إعادة بلورة الحلم الفلسطيني الذي بات يعاني كسوراً ورضّات. أخطرها الكسر الداخلي المتمثّل بحالة الانقسام.
بنظري، إنّ التمسّك بحقوق اللاجئين مبدئياً وفعلياً، على الرغم من شكلي التسوية الخلافيين، من شأنه إعادة الأمور أقرب ما يمكن إلى مكانها المطلوب، إلى الواقع. إنزال قضية اللاجئين من مستوى الشعار إلى الأرض سيكون محفّزاً لصياغة حلول تطبيقية. لأن التمسّك بالحقوق عموماً يحتاج إلى الخوض في ما وراء الشعار أو المطلب. فالقضية الفلسطينية أكبر من تحجيمها ضمن محاولات لترسيم حدود جغرافية سياسية، لأن عدالتها ترتكز في الأساس على كونها مشروعاً ثورياً مناهضاً للمشروع الاستعماري كما أرادت الحركة الصهيونية فرضه. لقد قام المشروع الصهيوني أصلاً على تطهير البلاد من أكثر ما يمكن من أهلها الفلسطينيين، ولن تتغيّر ممارساته المادية ما لم يتم الاعتراف الكامل بحقوق اللاجئين، سياسياً، أخلاقياً وفعلياً. في هذه الحالة، لن يظل الاختلاف في الطروحات المقترحة من أجل التسوية محشوراً في طابعه الراهن العقيم سياسياً، بل سيتحوّل إلى اختلاف مُثرٍ في الاجتهادات.
إنّ حل القضية الفلسطينية سيظل مستحيلاً من دون تفكيك بنية العلاقات الاستعمارية التي تواصل المؤسسة الإسرائيلية فرضها. من هنا، فكل تسوية لا تشمل في مركزها إحقاق حقوق اللاجئين، وفقاً لإرادة كل لاجئ وخياره وقراره، ستظلّ تسوية شكلية خاضعة لبنية العلاقات الاستعمارية السائدة. ومن المهمّ هنا توضيح أن تفكيك هذه البنية الاستعمارية هو في مصلحة اليهود أيضاً، لأنه يحرّرهم، سياسياً وأخلاقياً، من لعب دور الاحتياطي البشري والمادي لتكريس مشروع قوامه الهيمنة التي تنتج الحرب وسفك الدماء. إن تفكيك البنية الاستعمارية هو ما سيجعل وجود اليهود الإسرائيليين طبيعياً في المشرق. فالقضية الفلسطينية هي قضية تحرّر، ليس للفلسطينيين وحدهم!
أخيراً، إنّ العقبات الماثلة أمام تحقيق حقوق اللاجئين لا تقتصر على طبيعة المؤسسة الإسرائيلية وممارستها، بمرجعياتها الصهيونية، رغم أنها تظلّ أصل الداء. فهناك عقبات فلسطينية وعربية أيضاً. أولها غياب استراتيجية وطنية فلسطينية مشتركة تتجاوز سقف الاختلافات الأيديولوجية، مهما احتدّت. كما أن التعاطي العربي الرسمي مع القضية الفلسطينية كعقبة يُراد التخلّص منها، لا كقضية تحرر وطني عادلة، يزيد من مخاطر تقديم تنازلات جوهرية، يُخشى أن تحقق في نهاية المطاف انتصاراً للمشروع الصهيوني. وهو انتصار سيكون خطيراً على الشعب الفلسطيني وعلى الشعب اليهودي أيضاً، لأنّ كل تسوية شكلية خاضعة للقوة لن تكون أكثر من مدماك آخر لنشوء مأساة جديدة مقبلة.
* صحافي فلسطيني