ليس صحيحاً أن جاد المالح مُنِعَ من المجيء لإحياء حفلاته في بيت الدين. كان يجب أن يُمنَع بالتأكيد، لكنه للأسف لم يُمنَع. كما لم تكن معارضة الدعوة من منطلق العداء لليهوديّة، حتى لو أن موقف «المنار» ضعيف هنا، لكن لماذا تصبح معاداة اليهوديّة (وهي مُستنكَرة ومُستفظَعة) أسوأ من العدوان على غزة عند هؤلاء؟
أسعد أبو خليل *
تستطيع أن تقول الكثير في نقد فريق آل سعود ـــــ آل الحريري، لكنك لا تستطيع إلا أن تلاحظ وحدة موقفه وتماسك خطابه وطاعة أدواته. أي أن هذا الإعلام لا يسمح حتى بالفرادة في التعبير في مناصرة هذا الأمير أو ذاك الشيخ النفطي. الأميرُ يأمرُ، والأقلام تطيعُ صاغرة. كان نقد النظام السوري سائداً في هذا الإعلام في الأعوام الماضية: فلبّى الجميع، إلى أن أتت أوامر مختلفة قبل أسابيع، فصمت الجميع. وفي هذا الأسبوع وما قبله، قضيّة جاد المالح هي القضيّة الشاغلة. الجوقة نفسها غنّت وضربت الدفوف أسىً على تمنّع جاد المالح عن زيارتهم وإتحافهم بنكاته. فراس زبيب الكاتب في نشرة «المستقبل» رفض حتى تصديق بيان المالح، وقال ما لم يقلْه المالح نفسه، إنه مُنِعَ من زيارة بلد الأرز والبلّوط. وحازم صاغيّة استعان بالخطاب المبتذل والمُتكرِّر عن «التوتاليتاريّة»، لكن بأسلوب ينمّ عن جهل عميق بالنتاج الأكاديمي عن الموضوع. من المفيد أن نميِّز في دعاية الجوقة بين الحقيقة والاختلاق والخداع.
أولاً، ليس صحيحاً أن المالح مُنِعَ في لبنان. كان يجب أن يُمنَع بالتأكيد، لكنه للأسف لم يُمنَع. ثانياً، لم تكن معارضة الدعوة من منطلق العداء لليهوديّة، حتى لو أن موقف «المنار» ضعيف هنا، لكن لماذا تصبح معاداة اليهوديّة (وهي مُستنكَرة ومُستفظَعة) أسوأ من العدوان على غزة عند هؤلاء؟ ثالثاً، إن قول إبراهيم العريس (الذي وَصَف قبل أشهر مبادرة الحوار بين الملك السعودي وشمعون بيريز بأنها أعظم مبادرة في «تاريخ البشريّة») بأن للمالح تاريخاً طويلاً من التنديد بقمع إسرائيل للشعب الفلسطيني هو مُختلَق في أساسه. وإذا كان في حوزة العريس براهين على ما يقول، فكان يجب أن يقدّمها في مقالته. رابعاً، ليس صحيحاً البتة ما ورد في إعلام آل سعود ـــــ آل الحريري أن البسمة والضحكة لا تستقيمان في المجتمع العربي من دون حفلات للمالح، كما أنه ليس صحيحاً أن المالح هو أظرف كوميدي في «تاريخ البشريّة». خامساً، إن غضب جوقة المالح لا يتعلق بالفن من أجل الفن، بل بالفن لأجل التطبيع مع العدوّ. لهذا، فإن فراس زبيب كان صريحاً عندما قال إن مناصرة المالح للحملة من أجل جندي إسرائيلي مُحتلّ (لنُقلِع في الإعلام العربي عن محاكاة الإعلام الصهيوني في تسمية من ترى فيهم إسرائيل ضحايا لها، وكأن ضحايانا وُلدوا من دون أسماء أو وجوه) يجب أن لا تشكّل عائقاً أمام دعوته وتكريمه في لبنان. أما أمر تأييد فريق 14 آذار الضمني للتطبيع مع إسرائيل فواضح للعيان. تراهم ينتقدون كل أداء النظام السوري باستثناء أمريْن: التزامه عدم قتال إسرائيل والمفاوضات مع إسرائيل. فالأمران محلّ إعجاب عند عليّة 14 آذار. وسامي الجميّل أكّد قبل أسبوع أنه بالتأكيد يسعى نحو سلام مع إسرائيل. وتزامن الأسف على زيارة المالح ـــــ صدفةً طبعاً ـــــ مع مقال لغبريال مراد على موقع «ناو حريري» دفاعاً عن جيش لحد.
وجد فريق آل الحريري في لبنان قضيّة وبطلاً: جعلوا من جاد المالح رمزاً للفن الراقي والأداء الرفيع. الطبقة البورجوازيّة في لبنان لم تأخذ مقاطعة إسرائيل على محمل الجد يوماً من الأيام: حتى في عز المقاطعة بعد 1948، كان أبناء الذوات وبناتهم في «الكوليج بروتستانت» والـ«آي سي» والجامعة الأميركيّة واليسوعيّة يستعينون بالواسطة ليهرّبوا في أمتعتهم إلى لبنان ما ابتاعوه من ماركات وأسماء وسلع من شركات واردة على قائمة مقاطعة إسرائيل. وكلما كان المُقاطَع متحمّساً لإسرائيل أكثر، ازداد اقتناعُهم بموهبة المُقاطَع. قل إنها مغازلة العدو على الطريقة اللبنانيّة. وإعلام 14 آذار اختار أن يناظر محطة «المنار» وحدها في الأمر: وذلك لتسهل المناظرة في ما بينهما، كما هم يتعاملون مع كل نقد لثورة (حرّاس) الأرز على أنه صادر عن عاصم قانصوه وحده. زياد مخول جعل من الحملة ضد المالح إرادة من آيات الله فقط. أراح نفسَه. ومحطة «المنار» في موقع ضعيف: ليس فقط لأنها عن حق حاضنة أحياناً لمعاداة اليهود كيهود، بل لأنها متزمّتة جداً في مسألة الفن والتعبير إلى درجة أنها تقاطع حتى أغاني جوليا بطرس. ينبغي للقيّمين في محطة «المنار» أن يطّلعوا على تاريخ الفن الإسلامي، كما قال نصري الصايغ، وأن يتيقّنوا من أن الطرب والموسيقى والرقص وحتى المجون لا تتعارض مع المقاومة (هل هذا ما عناه نيتشه عندما قال في «هكذا تكلّم زرادشت» إنه يبحث عن إله يمارس الرقص؟).
لكن فريق مثقفي 14 آذار مصابون بنفاق فاقع في مسألة اللاساميّة. آموس عوز (العنصري ضدّنا الذي يفاخر بمشاركته في قتال العرب) عرّف معاداة الساميّة بأنها الظن بأن اليهود هم أسفل أو أفضل من الغير: لهذا، فإن معاداة اليهود عند الملك الحسن الثاني في المغرب كانت من النوع الثاني. وهكذا، يصبح الفنان اليهودي عند فريق 14 آذار أكثر موهبة إذا كان يهوديّاً، على أن يكون صهيونيّاً، لأن هؤلاء شنّعوا بإيران عندما دعت حاخاماتٍ يهوداً إلى طهران لحضور مؤتمر سخيف صادر عن إرادة رئيس يعاني على الأقل من تشكيك بالمحرقة.
لكن مثقفي 14 آذار مُخادعون في محاولتهم الظهور معادين لمعاداة اليهوديّة، وهم يتصنّعون الحساسيّة هنا فقط: 1ــ للظهور بموقع المتفوِّق حيال ثقافة يعتبرونها دونيّة عند «الدهماء» و«الغوغاء»، أو للسخرية من حس العامّة الفني.
2ــ لمحاكاة الرجل الأبيض لأنهم يعتقدون (جهلاً) أن الرجل الأبيض شُفي من معاداة اليهوديّة. وتبلغ هذه المحاكاة درجة مضحكة إلى حد أنهم يتماهون مع الخطاب الغربي ضد الإسلام والتعصّب مع اليهود (لا يعلم هؤلاء أن التشكيك بالمحرقة يصيب خُمس السكّان في أميركا وفقاً لدراسة في كتاب ديبرا ليبستات عن «إنكار المحرقة»). ومحاكاة الرجل الأبيض في لبنان تفسّر اهتمام البعض بإتقان اللكنة الأجنبيّة أكثر من اهتمامهم بإتقان اللغة الأجنبيّة. 3 ــ يجهدون لتحضير جماهيرهم للاستسلام أمام إسرائيل. ونتساءل: حساسيّة ضد العنصريّة من الفريق الذي امتهن العنصريّة ضد الشيعة في لبنان، والأمر فاقع في إعلامهم، والفريق الذي امتهن السخرية العنصريّة من الشعبين السوري والفلسطيني؟ هؤلاء في موقع الوعظ عن الحساسية الليبرالية الفائقة؟ هؤلاء الذين جرّوا خادماتِهم السريلانيكيّات إلى مهرجاناتهم الطائفيّة؟ الأمر مثل المزحة التي لا تنطلي حتى على مطلقيها.
ثم ما السبب في انكفاء الفريق هذا عن انتقاد معاداة السامية في ما بينهم؟ الكنيسة الكاثوليكيّة هي الحاضنة (التاريخيّة) الطبيعيّة لمعاداة اليهود، ولكن من المستحيل أن ينتقد هؤلاء خطاب الكنيسة، مثلاً. وجريدة «الأوريان لوجور» التي تنطّحت لقيادة الحملة دفاعاً عن المالح ليست في موقع الوعظ أبداً: ماذا كان موقف الجريدة من احتلالات إسرائيل وعدوانها عبر السنوات؟ وصاحب الجريدة، ميشال إده، الذي يظن أنه خبير زمانه في شؤون اليهوديّة والصهيونيّة، والذي تقلّ معرفته في الموضوع عن... أحمد الشقيري، حاول إقناعي قبل بضع سنوات في بيروت بأن اليهود في نيويورك كانوا على علم مُسبَق بأحداث 11 أيلول، وأنه لم يمتْ أي يهودي أو يهوديّة في 11 أيلول. وعندما حاولت أن أبيّن له جهلَه، أصرّ على موقفه وقال إن اليهود في نيويورك لزموا منازلهم ذلك اليوم. هل يجرؤ هؤلاء على انتقاد لاساميّة ميشال إده؟ ولا ننسى أن مثقفي 14 آذار هم جزء من حركة تمتدّ من حزب النازيّة اللبنانيّة لتصل إلى فريق السلفيّة الوهابيّة الذي لا يزال يستعين بخطاب عن «أحفاد القردة والخنازير». فاتتهم الإشارة وفاتهم وجود خالد ضاهر في صفّهم.
الموضوع متعلّق ـــــ يقولون ـــــ بحريّة التعبير. وهم يتحدّثون ـــــ والرجل الأبيض دائماً هو نصب أعينهم ـــــ وكأن هناك حريّة رأي وتعبير مطلقة في الغرب. لكن حريّة الرأي المطلقة ليست موجودة، ولا حتى نظريّاً. وجون لوك (أبو الليبراليّة النظريّة) أفرد قسماً في نهاية كتابه «عن التسامح» ليؤكّد أن تسامحه لا ينطبق على الجميع، وذكر في من ذكر «الأتراك» (وهي الإشارة الأوروبيّة إلى الإسلام آنذاك). وإهانة اليهود والتشكيك بالمحرقة جريمة في كندا وفرنسا وعدد من الديموقراطيّات الغربيّة التي لا تزال تحرّم بعض الإيديولوجيّات التي تراها مُنفّرة أو مُحرَّمة كما تفعل ألمانيا. وإسرائيل التي يتمثّل الليبراليّون العرب بها لا تزال تلتزم مقاطعة شبه تامّة للنتاج الموسيقي لفاغنر. وهل يوافق فريق مُناصري المالح على أن الأخير ليس في مرتبة موسيقى فاغنر؟ ورفيق الحريري الذي يؤلّهون خاض معارك قاسية ضد الإعلام ـــــ أو ضد مَن بقي من الإعلام غير المُمَوَّل منه ـــــ عندما رأى إهانة لشخصه أو لشخص واحد من ملوك شخبوط، أو للرئيس السوري (كما حصل معي أنا عندما مُنعَ كتاب صادر في الغرب لأنه تضمّن دراسة لي عن السياسة الخارجيّة السورية التي اعتبرتها حكومة الحريري في منتصف التسعينيات «مُهينة» للرئيس السوري).
كل دولة وكل مجتمع يستنبط معايير خاصة به للاستثناء من حريّة التعبير (والقائمة طويلة جداً هنا في أميركا بناءً على معايير الحرب ضد الإرهاب كما كانت بناءً على معايير الحرب ضد الشيوعيّة من قبل).
يحاول زياد مخول أن يتصنّع معركة جريئة ضد آيات الله، لكنهم في صف 14 آذار يحاربون آيات الله ليس بفولتير أو فرح أنطون أو روبسبيير، بل بالبطريركيّة وبدار الإفتاء وبمحمد علي الجوزو وبالرهبانيّات المارونيّة. هؤلاء يحاربون فكر الخميني بفكر... ابن باز. هؤلاء يناصرون المفاهيم القروسطيّة (مثل «الحرم الكبير» الذي لوّحت به الكنيسة هذا العام في أكبر خرق لحريّة التعبير في لبنان). والكنيسة تحارب حريّة التعبير في كل الأشكال: ضد «كود دافنشي» وضد بعض الفرق المسيحيّة و«عبَدَة الشيطان» وشهود يهوه إذا ما شكّلوا خطراً على الكنيسة. هؤلاء، لو عاد أسعد الشدياق، لبالوا عليه مرّة أخرى. الذين صمتوا عن قرار الكنيسة في عام 2009 بالتهديد بـ«الحرم الكبير» وبمحاكم التفتيش، لا يحقّ لهم الوعظ في حريّة التعبير. لكن كل هذا، بالإضافة إلى فرمان طارق متري للرقابة العليا على الصحافة، لم يثرْ حفيظتهم: لا بل كان مثقفو 14 آذار وصحافيوها من أنصاره، وطالبوا بالمزيد من تقييد الحريّات «لعيون الشيخ سعد».
كان يمكن أن يتعامل المرء مع نورا جنبلاط على أنها خارج الطاقم السياسي، وأفراد عائلات رجال السياسة في لبنان يجب أن يبقوا ويبقين في منأى عن السجال، إلا إذا اختاروا أن ينزلوا إلى حلبة السياسة. فنورا جنبلاط اختارت ألا تتراجع عن موقفها بدعوة صهيوني، غير مُعتذِر، جاد المالح، إلى مهرجانات تديرها هي من أجل الترفيه عن بورجوازيّة لبنان. ومن اللافت أن نورا جنبلاط عقدت مؤتمرها الصحافي محاطة بعليّة النازيّة اللبنانيّة، مثل نديم الجميل وإيلي ماروني. كان المشهد لافتاً. أن تُحاط بنديم الجميل وإيلي ماروني بالذات: الأول التقى من دون اعتذار مع حفيدة إسحق رابين في حفل عام وعلني في لندن، والثاني صاحب الاقتراح الشهير باقتحام مواقع حزب الله لنزع سلاحه لحساب... شرعيّة حزب النازيّة اللبنانيّة. لكن أمين الجميّل رفض ـــــ حسبما قال ـــــ أن يزايد عليه أحد في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة: الذي نصّبته دبابات إسرائيل والذي أشرف على عقد اتفاق استسلام بين لبنان وإسرائيل، والذي وعد حكّام إسرائيل ـــــ كما تذكر المراجع العبريّة ـــــ بأن يذهب أبعد من أخيه... يرفض أن يُزايَد عليه في القضيّة الفلسطينيّة، مع أن الكلّ في لبنان يستطيع أن يزايد على الجميّل، ربما باستثناء أنطوان لحد أو زياد الحمصي. لنورا جنبلاط أسبابها التي دفعتها إلى أن تحيط نفسها بالاثنيْن، إضافة إلى تمام سلام وطارق متري. (حتى زياد بارود أقحم نفسه إلى جانب المالح مع أنه كان يجب أن يهتم بأمر المال السعودي في الانتخابات وأمر تصريح بطريرك أنطاكية المُخالف للقانون الانتخابي).
أولاً، ما علاقة تمّام سلام بالثقافة، ومَن أئتمنه على شؤونها؟ وهل سمعنا بدور لوزير الثقافة هذا قبل مسألة جاد المالح؟ أي أن الوزير سلام اعتبر أن قضيّة المالح هي أهم قضيّة تمرّ عليه في الوزارة. وماذا قال سلام؟ قال إنه سمع بالإنترنت وإن ليس كل ما يُنشر على الإنترنت صحيحاً. هذه الدرر الثقافيّة لسلام نوّرت المؤتمر الصحافي. وطبعاً، برز طارق متري المتحمّس الأكبر في الأمر. تساءل طارق متري ساخراً ـــــ مع أنه كان في فرمانه لفرض رقابة حريريّة عليا على الإعلام قد اقترح منع السخرية والتهكم ـــــ إذا كان إلغاء حفل جاد المالح سيساعد في «تعزيز مواجهة لبنان للعدوانيّة الإسرائيليّة». فات الوزير أن يلاحظ أن لبنان الرسمي لا يواجه عدوانيّة إسرائيل ولم يواجهْها في تاريخه قط. صبية وفتية وفتيات تطوّعوا في تاريخ لبنان المعاصر لمواجهة عدوانيّة إسرائيل، فيما تقاعست الدولة: من أيام بشارة الخوري ومجيد إرسلان إلى أيام فؤاد السنيورة والياس المرّ. لكن، يمكن الإجابة عن سؤال طارق متري بالإيجاب. إن إلغاء حفل جاد المالح أجدى بكثير، مثلاً، من ذلك الخطاب الفاشل والباهت الذي ألقاه طارق متري في مجلس الأمن في حمأة العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. أي أن طارق متري هو آخر من يحق له النصح في موضوع مواجهة عدوانيّة إسرائيل. كان لمتري الفرصة للإسهام في مواجهة إسرائيل عندما كان في موقع المسؤوليّة أثناء عدوان إسرائيل على لبنان، وسقط. لكن متري لا يُؤخذ على محمل الجد: فإسم الرجل تحوّل إلى حالة. ولاحظنا أن متري أصدر بياناً خاصاً بالموضوع: تحمّس طارق متري لمجيء جاد المالح إلى لبنان أكثر من حماسته ضد عدوان إسرائيل على لبنان.
لكن السجال مع هؤلاء في فريق آل الحريري شيء، والحوار مع الرفيق بيار أبي صعب شيء آخر، لأن الأخير مدافع عنيد عن مقاومة إسرائيل. الرفيق بيار يختلف معنا في الموقف ويطالب بالسماح للمالح بالمجيء إلى لبنان. يفسر بيار ذلك بسبب أخطاء وردت في بعض المواقع الإلكترونيّة عن المالح. وهناك حديث عن صور مركّبة، وعن مزاعم غير صحيحة. لكن كل هذا لا يهم. المهم ما هو ثابت وأكيد: أن المدعو المالح أيّد جنود إسرائيل وناصر الكيان الغاصب. يكفي هذا. الباقي تفاصيل. هناك من يحاول (مثل طارق متري) أن يتلاعب بمعايير مقاطعة إسرائيل عبر القول إن المقاطعة يجب أن تتوجّه ضد جنود الاحتلال وحدهم. ولا نستبعد أن يفتي متري بعد قليل بأن المقاطعة يجب أن تستهدف فقط هؤلاء الجنود من جيش العدو الذين صوّبوا وأصابوا فينا مقتلاً. أما الباقون، فيرحّب بهم متري ويتطوّع إيلي ماروني للرقص أمامهم بالشمعدان في مطار بيروت الدولي. أي أن المقاطعة التي بدأت بمقاطعة كل من يقدّم العون اللفظي أو المعنوي أو المادّي للدولة الغاصبة باتت تكتفي فقط بمقاطعة البعض ـــــ لا الكلّ ـــــ في جيش العدو. (وهناك من المواطنين والمواطنات في دول غير إسرائيل ممن خدم في جيش الاحتلال، مثل رئيس أركان البيت الأبيض، رام عمانوئيل).
يقترح الرفيق بيار عن حسن نيّة أن نستخدم حضور المالح إلى لبنان لمناظرته أو إقناعه. الأمر أكبر من ذلك بكثير. يمكن مناظرة المالح على أرض محايدة كخصم يحمل أفكاراً معادية، ولكن ليس لإقناعِه، بل لإقناع جمهور من الطرف الثالث. المالح حزم أمره إلى جانب جيش العدو. والخلاف مع العدو ليس سوء تفاهم أو خلافاً عابراً يمكن أن يُحلّ على فنجان قهوة (أو شاي، على طريقة أحمد فتفت).
إنه خلاف أراده العدو بالحديد والنار: وهذا ما عناه أمل دنقل: «نَقتل أو نُقتل. هذا الخيار الصعب». ولم تتسربل حركات تحرّر وطني في تاريخها بنزعات لإقناع مهذّب للعدو ـــــ المحتلّ. التهذيب مع العدو ليس من شيم ثوار التحرّر، وإلا لكانت الجزائر كما أرادها المُستعمر الفرنسي، فرنسيّة مثل باريس، أو لكان مثقفو باريس قضوا وقتاً أطول في التسكّع في المقاهي خلال الحرب. المقاطعة التامّة هي أضعف الإيمان (بمقاومة العدو) في هذه الحالات، حتى لو تناقضت مع حسابات كل الأنظمة العربيّة (من سوريا وقطر إلى مصر والسعوديّة) الغارقة في وحول التطبيع طمعاً برضى أميركي.
أما القول إن المالح ينتمي إلى بيئة متعاطفة مع إسرائيل لإعفائه من المسؤوليّة الأدبيّة والأخلاقيّة، فهذا الكلام ينطبق فقط على الرضيع والأخرق، فالكل ينشأ ويترعرع في بيئات محمّلة بالتعصّب والعنصريّة والعداء للمرأة، لكن المرء يصل إلى سن يتحمّل فيها مسؤوليّة ما يحمل (أو تحمل) من أفكار وقيم. وهناك في أميركا وكندا من اليهود ممن ينتقدون إسرائيل أكثر بكثير من بعض العرب ـــــ هنا وهناك. الراشد مسؤول عن أعماله وكلامه، لا البيئة التي ينتمي إليها، وإلا فإن الأعذار التخفيفيّة واجبة على كل مناصري إسرائيل ومناصراتها في الغرب.
الأمر خطير: هناك من يريد أن يُروّج للتطبيع مع إسرائيل تحت مسمّيات مختلفة: السلام أو الفن الرفيع أو حب الحياة أو الحوار بين الأديان أو الانفتاح أو ترشيح عربي لمنصب مدير الأونيسكو. وهناك في لبنان من تاق حتى قبل إنشاء دولة الكيان الغاصب، لسلام مع إسرائيل. لبنان مسخ وطن يستقبل فيه رئيس الجمهوريّة، ميشال سليمان ـــــ مع نبذ الألقاب ـــــ وغيره من الساسة سفير «فرسان مالطة»، وما أدراك ما «فرسان مالطة». لبنان كان ثاني دولة عربيّة توقّع اتفاق سلام مع إسرائيل. لم ننسَ.

ملاحظة: نشر موقع «العربية» مقالي عن إيران، لكنه حذف منه كل النقد للأنظمة العربيّة وللإعلام السعودي. طبعاً، ليس مستغرباً ألا تلتزم وسائل إعلام آل سعود المعايير المهنيّة والحِرَفيّة (مثلما سرق موقع «ناو حريري» خبراً من مدوّنتي من دون ذكر المصدر) لكنني أحببت إطلاع القارئ والقارئة في العالم العربي على الأمر.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)