بدأ مسيرته مفكراً مهتماً بالأدب، ثمّ تحوّل إلى الشعر والرواية. أعماله الإبداعيّة تستلهم التاريخ، وأعماله الفكريّة تنطلق من نظرته للمثقّف الملتزم. وقفة مع الأديب والمنظّر المغربي الذي يختار لروايته أبطالاً مثل ابن خلدون و... الممثلة المصرية زهرة العلا معشوقة مراهقته

محمود عبد الغني
بنسالم حميش اسم مغربي بامتياز. رفقته ممتعة، فسرعان ما يظهر المفكر والروائي والشاعر في الرجل الجالس قبالتك، كأنَّ ريحاً هبَّت وهزَّت الشعير بقوة. ينتظرك في الموعد مع فنجان قهوة وسيجارة. كثير الاهتمام بالسياسة. يرسم أمامك شخصيَّات عالم السياسة والأدب، يجعلك تراها من خلال حديثه، وما عليك إلَّا أن تضحك أو تبكي. يتجنَّب الكلمات التي حوَّلتها الاستعمالات المتكرِّرة إلى قطع قديمة. أليس هذا مفهوم الروائي: أن يكون ذلك الشخص الذي يجدد الكلمات والأساليب، فتتبعه شخصياته ومعها القارئ؟
حميش صاحب حضورٍ متقشّف في الشوارع والقاعات المزدحمة، لكنَّه يبقى محاضراً مقنعاً وقوياً. يتكلم لغات كثيرة وتكتسب معه الأفكار تحقُّقاً مرئياً.
ما عليكم إلّا أن تفتحوا إحدى رواياته كـ«مجنون الحكم» (1990) أو «العلّامة» (1997)، أو أحد كتبه الفكريّة مثل «في نقد الحاجة إلى ماركس» (1984) أو «الاستشراق في أفق انسداده» (1991) لتدركوا ذلك. يكفي الرجوع إلى شهادة المستشرق الفرنسي الراحل مكسيم رودنسون الذي أشرف على أطروحة حميش، وقدَّم كتابه «التشكلات الإيديولوجية في الإسلام: الاجتهاد والتاريخ» (1988).

رواية «مجنون
الحكم» حوّلت
التاريخ المسكوت
عنه إلى مصدر
إلهام يحاكي
الراهن

في الطائرة التي أقلّتنا إلى القاهرة، للمشاركة في ندوة عن ابن خلدون بدعوة من «المجلس الأعلى للثقافة»، تجاذبنا أطراف الحديث... كان إذا تحدَّث ربع ساعة، يدعنا نتحدَّث ربع ساعة. إذا قلنا شيئاً أضحكه يبادلنا بشيء يضحكنا. نصيبنا من زجاجة المشروب المنعش هو نصيبه أيضاً، من دون زيادة أو نقصان. عندما سألناه عن الممثلة المصرية زهرة العلا معشوقة مراهقته التي كتب عنها في رواية «محن الفتى زين شامة» (1993) سألنا عن معشوقة مراهقتنا فقلنا: «شويكار». ضحك وقال: «اختيار جيّد».
طباعه التي تميل إلى الموازنة بين الأشياء، تعود ربما إلى كون حميش يعرف تماماً كيف يدير حربه الداخلية حول علاقة الشخص بنفسه أولاً وبغيره ثانياً.
يتميُّز حميش بيقظة نقدية معروفة في الوسط الثقافي المغربي. فهو يكتب بالفرنسية ويحتاط من الفرنكوفونية عندما تصبح إيديولوجيّة لغويّة. معرفته اللغويّة المتمكنة جعلته ينتقد عداء اللغة العربية من قبل معاهد لهجية حديثة الظهور، ومراكز أجنبية حوَّلت المغرب إلى أقطاب لغوية متقابلة.
منذ عودته من باريس، حيث درس الفلسفة وعلم الاجتماع، ثمّ نال عام 1983 دكتوراه دولة في الفلسفة، جعل بنسالم حميش من محاضراته الجامعية في «شعبة الفلسفة في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة» في «جامعة محمد الخامس» (الرباط) محوراً رئيساً في حياته اليوميَّة... إلى جانب عائلته وولديه أنيس والبتول. أمَّا أصدقاؤه فكثيرون، منهم عالم الاجتماع والروائي الراحل عبد الكبير الخطيبي والرسام الراحل محمد القاسمي والمفكر عبد الله العروي.
انطلاقاً من إيمانه بمفهوم «المثقَّف الملتزم»، أسَّس حميش عام 1983 مجلة «الزمان المغربي» مع الناقد سعيد علوش. لكن بعد سوء تفاهم على كيفية إدارة المجلة، وبعد قرار وزارة الداخلية القاضي بمنعها من الصدور، افترق الثنائي وأسّس حميش مجلة أخرى هي «البديل»، ليلحقها قرار المنع بدورها بعد عدد عن أدب الاعتقال. وراء حكاية تلك المرحلة حكايات: إنَّها «سنوات الرصاص» التي عاشها المثقفون في المغرب بصعوبة، وتقلّصت خلالها مساحة حريّة الرأي أثناء تولِّي الراحل إدريس البصري مهمات وزارة الداخليّة والإعلام في الثمانينيات، إلى أن أعفي من مهماته عام 1999.
قبل ذلك الزمن بقليل، أصدر مفكرون مغاربة مجلة «أقلام» المتخصِّصة بالفلسفة والأدب، من أبرزهم محمد عابد الجابري وأحمد السطاتي ـــــ كان من أوائل الذين ترجموا لوسيان غولدمان ـــــ ومحمد إبراهيم بو علو وعبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا وسالم يافوت. هذه المجموعة من المفكرين اهتمّت بالأدب وعلاقته بالسياسة والمجتمع على طريقة رولان بارت وجاك دريدا، وعملت من خلال مجلَّتها في مجال التحليل والتأريخ للمدارس الفلسفية والأدبية، ومثَّلت منجماً حقيقياً لمفكري ذلك الجيل ومثقفيه.
في زمن «أقلام» كان حميش أصغر سناً من جماعتها، ولم يكن مسكوناً بعد بهاجس الإبداع الأدبي. أخرجت «أقلام» إلى قرائها الجامعيين مقالات جدليّة، فيما كان الصراع على أشدّه بين العقل واللاعقل، في ظروف كتابة استنجبت القدرة على الفلسفة والتفكير العقلي. وعلى طريقة جماعة «أقلام»، بدأ حميش مسيرته مفكراً مهتماً بالأدب، ثمّ تحوّل لاحقاً إلى كتابة الشعر، فأطلق عام 1970 باكورته الشعريّة «كناش إيش تقول»، ثمَّ ديوانه الثاني «ثورة الشتاء والصيف» عام 1982.
تنطبق عليه مقولة الشاعر الفرنسي ميشال دوغي: «ما لا نستطيع قوله تجدر كتابته». هكذا ولدت باكورته الروائيّة «مجنون الحكم» (1990)، لتقول ما أفسده «الشجاع الجبان قاتل الصلحاء الذي بخل بما لم يبخل به أحد قط»: الخليفة الفاطمي أبو منصور علي الحاكم بأمر الله. كانت الرواية بمثابة نزع ورقة التوت عن عصور بكاملها منذ حقبة الفاطميين حتّى أيامنا. روايته هذه فاجأت الأوساط الثقافيّة العربيّة مطلع التسعينيات، إذ حوّلت التاريخ المسكوت عنه إلى مصدر إلهام يصوغ الأحداث وفق خيال جديد.
بعدها جاءت روايات كثيرة بينها «العلّامة» (1997) عن سيرة أبي علم الاجتماع ابن خلدون التي نقلتها «دار غاليمار» إلى الفرنسيّة. هكذا هي قدَم بنسالم حميش، لا تبحث إلا عن الأراضي الوعرة في الأزمنة الصعبة. في هذا السياق تندرج رواية «هذا الأندلسي» (الآداب 2008) عن سيرة «ابن سبعين» أحد أهمّ الصوفيين المغاربة في مطلع القرن الثالث عشر مع آخر الحملات الصليبيّة.
الأدب بالنسبة إلى حميش يعني الرواية، والتفكير يعني الكتابة الفلسفية، ومن خلف عدستهما يقف ليرى ما يحدث للمجتمع. تتحوّل الكتب معه إلى وسيلة لمساندة من يحيون حياة مرهقة لأنّها خصبة. عندما يكون مشغولاً بكتابة رواية، ويحدثك عن أهم حدث فيها، تلاحظ في عينيه نوعاً من بريق التوتر. إنَّه كاتبها، لكنَّه يتصرف كأنَّه قارئها. ذات مرة، قرأ مكسيم غوركي على الفلاحين قصة «في المنحدر»، فشرع الفلاحون في البكاء وبكى هو معهم.


5 تواريخ

1949
الولادة في مكناس (المغرب)

1988
صدر كتابه المرجعي «التشكلات الإيديولوجيّة في الإسلام: الاجتهاد والتاريخ» الذي قدّم له ماكسيم رودنسون

1990
صدرت باكورته الروائيّة «مجنون الحكم» (دار الريّس)

2002
تسلّم جائزة نجيب محفوظ عن رواية «العلامة» الصادرة عام 1997، وصدرت بالفرنسيّة عن «دار غاليمار»

2009
حاز دبلوماً وشهادةً تقديرية من الجمعية الأكاديمية « فنون ـــــ علوم ـــــ آداب» عن مجمل أعماله