ثلاث سنوات مرت على انتهاء حرب تموز 2006 ولكن الجنوب ما زال يرزح تحت عبء الدمار وإعادة الإعمار، اللذين تركا بصماتهما القاتلة على هويّته وماضيه. فقد دُمّرت البيوت القديمة، ورُمّمت المراكز الدينية لتصبح مباني حديثة لا تمتّ إلى الماضي بصلة
كامل جابر
جوان فرشخ بجالي
من دير ميماس إلى العديسة ومن الخيام إلى حولا... ها هي قرى الجنوب اليوم ترفع عنها حلّة ماضيها وهويتها لتلبس ثياب الإسمنت والبناء السريع. الكثير من بيوت الطين والحجر التي أصابها العدوان لم ترمّم، وتلك التي لم يُصبها هدَمَها أهلها ليقبضوا تعويض الإعمار ويبنوا مكانها بيوتاً إسمنتية، وذلك بعلم كل السلطات والفعاليات المحلية التي لم تحاول حتى إيقاف عجلة الدمار تلك والمحافظة على تراث قراها. لا بل إنها أسهمت في ذلك مباشرةً في بعض الأحيان. فكانت لقرى الجنوب قبل حرب تموز برك تتجمّع فيها مياه الشتاء للريّ في الصيف، وترطيب الأجواء خلال فترات الحر، وكانت هذه البرك تمثّل جزءاً لا يتجزأ من هوية المكان التاريخية والاجتماعية. ولكن، مع ورشة إعادة الإعمار، قررت المجالس البلدية في حولا، وعيترون ومجدل سلم وغيرها من القرى ردم هذه البرك، وتحويلها إلى مواقف سيارات بحجة أنها أصبحت مرتعاً للأوساخ والحشرات، كما لو أن الحلول الوسطية «المنصفة» ـــــ كتنظيف البرك ووضع أسماك في داخلها تنظّف مياهها وتأكل الحشرات ـــــ غير معروفة، وكما لو أن تحذيرات خبراء الأمم المتحدة من تغيّر المناخ وشحّ المياه في العالم لم تصلها، وكما لو أنه ليس لهذه البرك دور حيّ في حياة الأهالي وذكرياتهم.
ففي بلدة حولا الحدودية مثلاً ردمت البلدية بركة «الضيعة» القديمة وحوّلتها ساحة وموقفاً للسيارات، منهيةً بذلك خدمات هذه البركة، التي كانت تُعتمد مورداً أساسياً لمياه الري والخدمات المنزلية الثانوية. وكانت البركة تمثل جزءاً مهماً في الذاكرة الجامعية، فحولها كانت تجري اللقاءات وحلقات الفرح والأعراس والدبكة الشعبية. لم يتوقف الردم على بركة حولا، بل هكذا فعلت أيضاً بلديتا عيترون والطيبة، مع العلم أن عمر البركتين فيهما من عمر القرية، ولهما دور فعال في حياة القريتين الاقتصادية من سقاية الماشية وري المزروعات، وخصوصاً زراعة التبغ.وللتذكير فقط، فجمعية «اليونسيف» وبعض المؤسسات الإنسانية والاجتماعية العالمية كانت قد دأبت في السنوات التي تلت التحرير (أيار 2000) على تأهيل البرك في القرى الحدودية وتعزيزها بموارد المياه والاهتمام المحلي، وذلك للتخفيف من جفاف أواسط الصيف. ولكن اليوم ذهبت دراساتهم وأعمالهم سدى!
ولا يقف تدمير التراث على المجالس البلدية، بل يشمل الأوقاف أيضاً. فمسجد عيناتا كان تاريخياً، وأصبح اليوم حديثاً. فأعمال «الترميم» التي شملت مئذنته ومسجده لم تراعِ المواصفات التراثية التي كلّلت هذا المسجد المبنيّ منذ نحو ثلاث مئة عام. فاستُخدمت فيها حجارة مقصبة ومشطوبة لا تمتّ بصلة إلى تلك التي كانت سابقاً، إن من حيث المصدر (المقلع) أو من حيث الشكل واللون! كان من الأشرف بناء هذا الجامع قرب ذلك المهدّم، وإبقاء بعض من التراث للقرية، والهوية التاريخية ولو أنقاضاً. فعملية الترميم تلك أفقدت القرية 300 سنة من التاريخ.
الوضع ليس أفضل بكثير في دير ميماس، بعدما حلّ الخراب بالدير والكنيسة من جراء القذائف والصواريخ الإسرائيلية. وكالعادة، لم تراعِ أعمال الترميم أثريةَ الدير، وجرت أعمال البناء والتأهيل سريعةً على نفقة بعض المؤسسات العربية والمحلية. فتُركت للمهندسين حرية استنساب الحجارة البديلة لتلك التي كانت تتألف منها جدران الدير، والاستعانة بمساحات وقواعد من الإسمنت نقيضة لتلك الحجرية التي كان يقوم الدير عليها. هذا إضافةً إلى توسيع المبنى، وإضافة غرف حديثة إليه. فأتى شكل الدير «كتزوير للتاريخ».
أما بالنسبة إلى الأبنية الخاصة، فبعضها متروك مهدّماً في مهب الريح. إذ إنّ قصر محمد محمود الأسعد المعتمر للتل الشمالي من بلدة العديسة بات أطلالاً تُظهر من ناحية همجية العدوان الإسرائيلي، ومن ناحية ثانية إهمال مؤسسات الدولة للأبنية التراثية الخاصة. ويمكن رصد آثار العدوان على القصر التراثي، الذي يزيد عمره على المئة والخمسة والعشرين عاماً، وتتبدّى فظاعته كلما اقتربت العين من تفاصيل الرؤية. فالقصر تبدّلت معالمه من الخارج والداخل في آن واحد، لتكشف القذائف الناخرة للسطوح والجدران، عورة الأقبية القديمة، التي كانت «إسطبلات» القصر. ولم تسلم النحوت «الطليانية» المزيّنة للباب الغربي والنافذتين المجاورتين له من الجهة الشمالية. ولم يعد من أثر للشرفة الجنوبية بعدما هوت كلها.
من العديسة إلى جباع حيث شمل القصف قبة الحمّام التركي، ودمرها فتضررت القناطر فيها. من جباع إلى عيتا الشعب التي كشف الإعمار عن آثارها الرومانية ـــــ البيزنطية الدفينة، فرُدمت ونُسيت أو رُميت حجارتها.
من حق الشعب اللبناني رثاء شهداء الحرب الذين لن يعودوا يوماً، ومن حقه أيضاً رثاء آثار الجنوب وهويته اللتين متى أُزيلتا لا يمكن إعادتهما بأصالتهما. قبل الحرب كانت قرى الجنوب أقدم بكثير من المستعمرات الإسرائيلية، ولكن اليوم باتت تُجاريها في العمر لولا إصرار بعض الأهالي على المحافظة على بيوت أجدادهم.