3 سنوات مرّت على حرب تموز. آلاف العائلات تهجّرت. عاد جزء منها إلى الديار بعد إعادة إعمارها أو ترميمها، فيما لا يزال عدد كبير في «الشتات» بانتظار العودة. كيف يمرّ الوقت عليهم؟
منهال الأمين
الصخب الذي ميّز يوم 12 تموز 2006 في الضاحية الجنوبية لم يكن يشبه نفسه، وخصوصاً بعدما تجاوزت الساعة التاسعة صباحاً، وانتشر نبأ أسر المقاومة جنديين إسرائيليين قرب بلدة عيتا الشعب. يومها خرجت الضاحية عن آخرها مطلقة العنان للرصاص والمفرقعات وأبواق السيارات. «كان عرس فرح بقرب إطلاق الأسرى. لم نكن نعلم ما ينتظرنا. وعندما اشتد وطيس المعركة، خرجنا تاركين وراءنا كل شيء». هكذا بدأت رحلة الطبيب السبعيني علي عجمي مع «نكبة» الضاحية التي اجتذبته بساتينها قبل 30 عاماً. و«لأن السمك لا يعيش إلا في الماء» لم يفكر في الانتقال إلى أي مكان آخر.
بعد الحرب، عاد إلى بئر العبد ليجد بيتاً مدمراً، وعيادة متضررة. فرمم الأخيرة، الواقعة مقابل منزله، متخذاً جزءاً منها منزلاً لمّ فيه شمل عائلته المكوّنة من زوجته وأبنائه الثمانية. هكذا أعادته الحرب إلى عام 1979، تاريخ زواجه في هذه الشقة قبل أن يحوّلها إلى عيادة، ويشتري منذ 20 عاماً شقته «التي كبر فيها أبنائي وعشنا أجمل أيام العمر» يشيرُ من شرفة عيادته إلى البناية الجديدة التي ارتفعت. يتابع: «عادت أجمل مما كانت بحق، وصارت جوهرة».
ردة فعله على تدمير المنزل «كانت إصراراً على الصمود حتى ننتصر. أصبح همنا نتيجة المعركة لا خسائرها. كلّ شيء يُعوّض إذا انتصرت، أما إذا خسرت ضاع كل شيء». خلال الحرب «كانت المقاومة أملنا الوحيد. ننتظر إطلالة السيد حتى نخزّن معنويات». ولذا فإنه «خزّن» له شوقاً كبيراً، رواه في مهرجان الانتصار في 22 أيلول.
يتذكر أنه عندما قدم إلى الحارة «لم تكن عامرة كما هي اليوم. كان زبائننا يُعدّون على الأصابع، ثم أصبحت ملجأً للهاربين من الحروب والحرمان، والألف صار مليوناً». ولعجمي، كما كثير من الجنوبيين، قصة طويلة مع التهجير والحروب. نزح والده المقاول من بنت جبيل أوائل الخمسينيات إلى برج حمود. ثم إلى بنت جبيل في أحداث 58. أما هو فتخرج من جامعات الجزائر وفرنسا أواسط السبعينيات طبيباً في جراحة الأسنان. وعلى دربه سار معظم أولاده «وكلهم سيسكنون ويعملون هنا، حتى إذا تطلب الأمر الاقتراض لشراء منزل أو عيادة، فلا بديل لنا من الحارة»، وخصوصاً أنه استعاد خلال السنوات الثلاث الأخيرة نشاط عيادته، رغم نزوح عدد كبير من زبائنه عن المنطقة، التي لا تزال تعجّ بالورش والأعمال.
غير بعيد من عجمي، في محلّه للألمنيوم والزجاج، يتحدث فيصل حمود (58 عاماً) بارتياح كبير عن إعادة الإعمار. يقول: «المواصفات عالمية: باطون باب أول، والتشطيب ممتاز»، متحدثاً بشغف عن استعداداته للعودة أواخر آب المقبل إلى منزله بعد فراق قسري. عودة قد تعوّض المكان، إلا أنها «لن تعوّضني الذكريات لأنها لا تتكرّر. الماضي كله تلاشى هناك بين الجدران التي استحالت غباراً».
ابن بلدة كفرملكي تحمّل مسؤولية إخوته الثمانية حين توفي والده وهو في الخامسة عشرة من عمره. سافر إلى الكويت، حيث تعلم مهنة تركيب الزجاج وعاد بعد سنوات إلى لبنان ليفتتح محلاً في حارة حريك. تطوّرت مصلحته بسرعة واتسعت، ما سمح له بشراء منزل في بئر العبد أوائل الثمانينيات. ورغم أن الحرب الأهلية والاجتياحات الإسرائيلية كانت دائماً بالمرصاد، لم يخل الأمر من فسحة أمل. حتى حرب تموز الأخيرة «أفقدتني البيت والمحل، ولكنها أمّنت لنا عملاً إضافياً، وفرص عمل لكثير من الشباب» يقول، معترفاً في الوقت نفسه بأنه بكى حين رأى منزله مدمراً: «يلومونني لأن دمعتي سخيّة. لكن ليس من السهل أن ترى أحلامك وأحلام أولادك تتهاوى أمام عينيك». هو لم يستطع إنقاذ شيء من «ريحة البيت، سوى «علامة» ابنتي التي كانت قد خطبت حديثًا».
تحقّقت العودة لكن الذكريات لا تعوّض
رغم ذلك تقبّل الواقع، وأقام في انتظار إعادة إعمار بيته، في منزل ابنته المسافرة في منطقة الكفاءات. لكن قلبه وعقله، كما كلّ أفراد عائلته، بقيا في بئر العبد «نشعر دائماً بأننا ضيوف ويجب أن نغادر. لم نتأقلم في السكن الجديد. زوجتي وأولادي يأتون يومياً إلى الحي، يتفقدون ذكرياتهم وحياتهم السابقة. يترقبون العودة للقاء الجيران وأصدقاء العمر. فالحال من بعضو». ورغم شعوره برضى عام، إلا أنه يسجّل بعض الشوائب التي اعترت العمل وخصوصاً لناحية التشطيبات «لأن المشروع أكبر من أي إمكانيات» يقول، ثم يستدرك: «لكن، لولا مشروع وعد لإعادة إعمار الضاحية لما عدنا إلى بيوتنا. فالجيران يختلفون عادة على أبسط التفاصيل. ولو اتكلنا على الدولة، لما رأينا شيئاً، لأنها لا تريد لنا أن نعود»، مقارناً الوضع بما جرى في غزة «فهذه الحروب على المقاومة تهدف إلى إيجاد شرخ بينها وبين ناسها».
لكن، في الضاحية يبدو أنه لا مجال لخلق أي نوع من التوتر في العلاقة، ما دام العاملون في «وعد» متفهمين لكلّ المشاكل. أم حسن طراد مثلاً، أصبحت هاجساً للمهندس المشرف على بناية الإمداد. لم يعجبها البلاط الذي اختارته «وعد»، فطلبت تغييره وبها اقتدى معظم السكان، مع دفع فرق الثمن. هي أمضت أكثر من 20 عاماً في شقتها المهدّمة، اعتنت عناية خاصة بأثاثها وديكورها «وكلو راح تحت الدمل». تنقلت بين منزلين خلال فترة إعادة الإعمار، ليستقرّ بها المقام أخيراً في الجنوب في انتظار «تعفيش الشقة من جديد». كان في نيتها تحويل إحدى الشرفات إلى غرفة للأولاد، ولكنها فوجئت بأن الأمر لم يعد ممكناً لأن مساحة الشقة تقلصت «بسبب الحرص على إيجاد مسافة تبعدها عن المبنى المجاور». وهي الملاحظة نفسها التي سجلها فيصل حمود.
أما محمد زيون، الذي انتقل إلى شقته في بناية الزهراء في بئر العبد منذ أسابيع قليلة، فيتحدث عن غبن لحقه مع جيرانه، لأن «وعد تنفذ الخريطة كما هي وتلغي التعديات». يوضح: «نحن اشترينا من دون تدقيق في الدوائر العقارية، ولكن تبين أن البناية مخالفة». ومع أنه يؤيد إزالة التعديات «لأننا لا نرضى الإقامة في مكان مغتصب»، إلا أنه ممتعض من انعكاسها سلباً على الأقسام المشتركة «تقلصت مساحة الموقف إلى النصف، فيما بقيت مساحة الشقق على حالها، كما تركوا لنا حرية إعادة تقسيمها». ويلفت زيون إلى «التعديلات الخارجية لجمالية المنظر. مثلاً تقلص حجم الشرفة الرئيسية من 7 إلى 5 أمتار، وعندما اعترضنا أُجبنا بأن هناك «ديزاين» يجب الالتزام به، فاقتنعنا بالفكرة». لكن ما لم يقنعه هو المقاول الذي لزّمته وعد الباطون والتشطيب «وهو بدوره ألزمنا بأسعاره المرتفعة، لأنه إذا أراد المالك مواصفات مغايرة لمواصفات وعد فعليه دفع الفرق»، ما دفع زيون وآخرين إلى تسلّم الشقة قبل التشطيب «لاستكمالها على ذوقنا».
لذلك، يصبح مفهوماً أن نسمع عجمي يقول إنه على الرغم من المعاناة التي عاشها «من الواجب إنصاف الحزب الذي أعطى الجميع من دون تمييز، حتى تمنى كثيرون لو تهدمت منازلهم» يقول ممازحاً. برأيه «مشروع وعد من أهم الإنجازات. ولو كنت مكانهم لما فعلت ما فعلوه معنا».


تأريخ الذكرى

لم تكد الانتخابات النيابية تنتهي، حتى امتلأت اللوحات الإعلانية في الضاحية الجنوبية بشعارات مناسبة جديدة يحتفي بها «حزب الله». انتصار حرب تموز مهدى إلى «أشرف الناس» و«أكرمهم»، كما إلى المقاومين من «رجال الله».
هذه عادة «حزب الله» عندما يتوجه إلى جمهوره. فقد تصدّرت كلمة «أنتم» الحملة الإعلانية، مذيّلة بمكملاتها المشتقة من خطاب سيد المقاومة الموجّه إلى جماهيرها «أشرف الناس» و«أكرم الناس». وهي تحاكي خطابه الأخير لهم بعد الانتخابات حين طلب من «العالم أن يسمع جيداً»، مردّداً: «أنتم، أنتم، أنتم، نعم أنتم الضمانة، أنتم الانتصار، أنتم المقاومة وبكم نتحدى العالم».
وحافظت الحملة على شعار «نصر من الله»، واستعانت بصور تؤرّخ الذكرى، للصامدين والعائدين على عجل واحتفال 22 أيلول وإعادة الإعمار في الضاحية، إضافة إلى صورة مقاوم قابض على الزناد، في تأكيد لهذا الذوبان بين المقاومة وجمهورها، بين «رجال الله» و«الشعب الوفيّ الأبيّ الذي أدهش العالم».