أعادت الجلسة الختامية لـ«حوار بيروت» بشأن تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 طرح السؤال الرئيسي على معدّي التقرير وكتّابه واللجنة الاستشارية التي وافقت عليه. هل يصلح هذا التقرير لأن يكون دراسة مرجعية لقضايا التنمية في العالم العربي؟ وعطفاً... هل الثُغر المفجعة التي أغفلها التقرير ستستفزّ المفكرين العرب لصوغ تقرير رديف؟بسام القنطار
على الرغم من أن اليوم الثاني والأخير من الحوار الذي أعدّته مجلة «وجهات نظر»، بشأن تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009، شمل العديد من المداخلات التصويبية من معدّي التقرير أنفسهم ومن باحثين مستقلين، إلا أن المداخلتين الأكثر صخباً ونقداً كانتا لرئيس تحرير مجلة «الآداب» د. سماح إدريس، ولأستاذ السياسة والفكر العربي في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية د. جوزف مسعد.
فخلال مناقشة الجلسة الختامية موضوع «الاحتلال والتدخل العسكري وانعدام أمن الناس»، فجّر الباحثان نقاطاً نقدية، بشأن التقرير، من العيار الثقيل جداً، ما فاقم الحرج الذي وقع فيه المكتب الإقليمي للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، بسبب غياب الباحث الرئيسي للتقرير، د. مصطفى كامل السيد، عن حفل الإعلان عنه، وعن الجلسات الحوارية التي عهد برنامج الأمم المتحدة إدارتها إلى مجلة «وجهات نظر». وكان السيد قد برر غيابه بسبب تدخّلات موظفي الأمم المتحدة وإدخال تحويرات على التقرير.
بدأت مداخلة إدريس بنقد مقدمة التقرير الذي يرى «أن سياسات القوى الخارجية لم تكن مساعدة في هذا المجال (المقصود مجال توفير أمن الإنسان)». ورأى إدريس أن هذا التعبير شديد الميوعة، وكان يجب تغييره بعبارات أقسى تعبّر عن واقع تلك السياسات. ولاحظ إدريس أن فصل «الاحتلال والتدخل العسكري» قد جاء ثامناً، أي قبل الملاحظات الختامية. وسأل هل بات الاحتلال أقل وطأة على الأمن من البيئة والصحة واضطهاد المرأة؟ وربط بين هذا التساؤل وعمل بعض المنظمات غير الحكومية التي تحاول استبعاد قضايا الاحتلال والاستعمار والصهيونية أو التقليل من شأنها، لمصلحة أمور ومصطلحات لا ينبغي التقليل من شأنها بالتأكيد كـ«تمكين المرأة» و«حقوق الإنسان»، سوى أن هذه المصطلحات غالباً ما تطرح بديلاً من مقاومة الاحتلال والاستعمار لا رديفاً للمقاومة أو جزءاً من مشروع مقاومة الظلم بأشكاله كلها.
أردف أدريس: «ثمة تعبيرات أخشى أن تستبطن تصديقاً لمزاعم الاحتلال الخارجي. فماذا نقول مثلاً عن هذه العبارة في صفحة 169: «مع تعاظم الفوضى أخفقت القوات المتحالفة (...) في أداء التزاماتها بضمان الأمن للمواطنين العراقيين». أضاف: «إن مَن يكتب هذا الكلام يبدو كأنه يصدق «التزامات» تلك القوات الاستعمارية أو يأخذها مأخذ الجد، بل يبدو كأنه يستبعد مسبقاً، من دون أي تبرير، نظرية «الفوضى الخلّاقة» التي اعترف القادة الأميركيون أنفسهم بأنها من ضمن سياساتهم في العراق.
ولاحظ إدريس أن التقرير رغم ادّعائه الموضوعية، لا يتورّع عن تبنّي مقولات تنضح بالانحياز لطرف دون غيره من أطراف الصراع. وأعطى مثالاً على ذلك وصفه المقاومة العراقية والفلسطينية بـ«الميليشيات»، أو قوله إن أعضاء تنظيم القاعدة «تسللوا إلى العراق بحجة مقاومة الوجود العسكري الأميركي».
وأسف إدريس لإصرار التقرير على اعتبار الصراع إسرائيلياً ـــــ فلسطينياً، بل يكاد يحصره في مناطق الـ67، متناسياً عوامل أساسية تخلّ بالأمن العربي، ومنها: التمييز العنصري الإسرائيلي في مناطق الـ48، واللاجئون الفلسطينيون في المهاجر، واحتلال إسرائيل لشبعا والغجر وتلال كفرشوبا والجولان، ووجود أسرى عرب في سجونها، وعدم فتح ملف التعويضات التي ينبغي أن تدفعها.
التقرير منحاز للرواية الأميركية ـــ الإسرائيلية في موضوع فلسطين

بدوره، سأل جوزف مسعد عن السبب الذي جعل التقرير يستثني هضبة الجولان من الأراضي الواقعة تحت الاحتلال، وتمنّى ألا يكون من كتب التقرير قد قبل بضم إسرائيل للجولان عبر قانون صدّق عليه الكنيست عام 1981. وأكد مسعد أن التقرير يتبنّى الخطاب والمصطلحات التي تستخدمها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وهو لا يقدم معلومات جديدة، بل يجمّع معلومات من تقارير عدّة. ولفت مسعد إلى أن التقرير لم يشر إلى التدخل العسكري الأميركي في الضفة الغربية وغزة عبر عصابات الجنرال «دايتون»، ولا يذكر التدريبات العسكرية للجيش المصري والأردني وجيوش دول الخليج من جانب الولايات المتحدة، إضافة إلى وجود قواعد عسكرية أميركية في دول الخليج وفي الأردن ومصر والمغرب وغيرها.
واتهم مسعد التقرير بأنه منحاز للرواية الأميركية الإسرائيلية في موضوع فلسطين. ولقد تبيّن ذلك من خلال مقارنة النصّين العربي والإنكليزي في شأن أسباب اندلاع حرب غزة الأخيرة، إذ استخدم النص الإنكليزي لغة لوم أقوى لحركة حماس وحمّلها مسؤولية اندلاع النزاع، مع العلم بأن النسخة العربية المخفّفة لم تكن أفضل حالاً. وعن اتهام التقرير للمقاومة الفلسطينية باستخدام أطفال في النشاطات العسكرية، لاحظ مسعد أن هذا الادّعاء استند إلى مقالة للكاتبة شانون ماكمانيمون نشر عام 1999 في مركز أبحاث مغمور. وبعدما أجرى مسعد قراءة معمّقةً لهذا المقال، ولمقال آخر للكاتبة نفسها، تبيّن له أنها لم تشر إلى استخدام الفلسطينيين للأطفال، ما دعاه إلى طرح علامات استفهام علمية وسياسية بشأن هذا الادّعاء والمرجع الذي استند إليه.
ولعل التحدي الأكبر الذي سيواجهه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هو في نشر هذه المداخلات على غرار ما وعد رئيس تحرير «وجهات نظر»، أيمن صياد، على الأقل لتخفيف الحنق والغضب والاستفزاز الفكري الذي خلّفه التقرير لدى العديد من الباحثين والكتاب. ومثال على ذلك رئيس تحرير النشرة العربية لصحيفة «لو موند ديبلوماتيك»، الزميل سمير العيطة، الذي ختم إدارة الجلسة الثالثة من الحوار مستشهداً ببيت شعر لأبي النواس يقول فيه: «هذا زمن القرود فاخضع وكن لهم سامعاً ومطيعاً».