حسان الزينثمة من يدفع الأمور، خفية وعلناً، إلى ما قبل الطائف. وهذا ليس نسيب لحود الذي لامس، في يوم من الأيام (قبل قرنة شهوان)، أن يكون ممثّلَ نخبة متفرّقة متعطّشة للتجديد خارج الاصطفافات الطائفية. فنسيب لحود من أبرز ضحايا عملية العودة إلى ما قبل الطائف. ويبدو أن حزب الله ليس من يدفع الأمور في ذاك الاتجاه، على الرغم من أنه المتّهم الأول بالسعي إلى تغيير النظام. فحزب الله، في حال العودة إلى ما قبل الطائف، يغدو حركة محرومين. وهذا مستحيل نظراً لعوامل عدّة لا تخفى على عاقل، منها حجمُه وحجمُ حركة المحرومين، وتحالفاته الداخلية والخارجية، ودوره الإقليمي المتقدّم في الصراع بالمنطقة... الخ. إضافة إلى أنه ليس ممن يقبَلون بالتنازل عن المكتسبات التي حُقّقت مع اتفاق الطائف، على صعيدي الحراك المذهبي الداخلي والحراك الإقليمي المتصل بالصراع مع إسرائيل والدور الإيراني في هذا الجزء من العالم. وهو، أي حزب الله، يتقاطع في هذا مع حركة المحرومين وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، وما تعبّر عنه هذه القوى مذهبياً وإقليمياً.
من يسعى إلى ذلك، لا سيما بعد الاختراق الذي حُقق في العودة إلى قانون الستين الانتخابي النيابي، هو المارونية السياسية. وتستفيد هذه القوى من «الدلع» الذي فاض به الحلفاء، حزب الله والمستقبل خصوصاً، في الانتخابات النيابية الماضية التي كان أحد عناوينها، وعناوين معركة العودة إلى قانون الستين، هو «تحرير المقاعد المسيحية من الناخب المسلم». وهذه كانت محطّة في المعركة الخفية للعودة إلى ما قبل الطائف الذي أخذ من «المسيحيين» السلطة على تقرير عدد كبير من المقاعد ووضعها في يد القوى التي تحتكر تمثيل «المسلمين».
إذاً، حققت المارونية السياسية مكاسب عدّة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري مروراً بدورتي الانتخابات 2005 و2009. واليوم تسعى إلى المزيد، محاوِلة، كما دأبها دائماً، استثمار الظروف الإقليمية. وما تغيّر إقليميّاً منذ اغتيال الحريري، ولا سيما في اللحظة الراهنة، هو تقاطع هذا المشروع ــــ الحلم مع المصالح السورية، في ظل أجواء التهدئة الأميركية الأوروبية مع النظام هناك، وعمله الدؤوب لتعزيز أوراقه التفاوضية مع السعودية وحلفائها العرب من جهة، ومع إسرائيل من جهة أخرى. فوسط المعادلة القائلة إن الشيعية السياسية، أو الجزء المقاتل منها، هو حليف لإيران التي ينشط البعض إلى فك ارتباطها بالنظام السوري غير الممانع للتفاوض مع إسرائيل، وإن السنّية السياسية حليفة للسعودية ومصر؛ وسط هذا تترشح المارونية السياسية لتبادل المنافع مع سوريا. واذا كان وليد جنبلاط قد قرأ ذلك، فإن سليمان فرنجية (حليف سوريا) وأمين الجميل (عينه دائماً على دمشق) قد وضعاه قيد الاستطلاع التنفيذي، بعدما افتتح ميشال عون معمودية النار. وإذا كان فرنجية قد سلك طريق بكفيا إلى معراب حيث مقر سمير جعجع، فإنه لن يُستغرب أن يسلك جعجع طريق الشام إلى بنشعي. وإن كان ذلك صعبَ التصديق حالياً فإنه سيغدو «طبيعياً» مع تحسّن العلاقات الأميركية السورية.
هنا السؤال: هل تتفلّت سوريا من اتفاق الطائف الذي اجتهدت في تفسيره، بل صاغته بلغتها لخمس عشرة سنة، فجعلته «مقاوماً» وطاولة تفاوض مع العرب وإسرائيل والعالم؟
ليس الأمر بهذه السهولة، وقواعد الربح والخسارة تحكم، والمفاوضات مع أميركا (وإسرائيل) لم تفضِ بعد إلى نتائج، والسعودية موجودة دائماً في المزاد والبورصة، ولا تفرّط بخفّة بحلفائها في لبنان وبدورها فيه وفي المنطقة، وهي صاحبة مبادرة التسوية مع إسرائيل.
مرّة أخرى يتجدّد الدور السوري في لبنان، واليوم من البوابة «المارونية السياسية» التي تتكوّن من حلفاء لسوريا وخصوم وأعداء. فدمشق عند التقاطع الداخلي والإقليمي العالمي: هي تفاوض إسرائيل ومعها المقاومة (في لبنان وفلسطين) وإيران؛ وتفاوض السعودية ومعها الشيعية السياسية... وتسعى إلى جذب المارونية السياسية من خلال حلفائها الناشطين لإيقاظ حلم المارونية السياسية وجمع قواه، من التيّار الوطني الحر والمردة إلى الكتائب والقوات اللبنانية؛ وتفاوض العالم ومعها بطاقة تفاوضها مع إسرائيل والسعودية...
وبعد، وأخيراً، كيف يستخف البعض بنفسه ويسأل لِمَ يسحب سعد الحريري موضوعَ سلاح المقاومة من الجدل البيزنطي بين ليلة وضحاها؟ أليس في هذا خوف من شبح المارونية السياسية! ولِمَ يدعو وليد جنبلاط إلى تجديد الاتفاق الرباعي (الإسلامي) قائلاً إن المحكمة الدولية صارت شأناً تقنياً خارج التداول السياسي المحلي؟ أليس في هذا أيضاً خوف من شبح المارونية السياسية! ولِمَ ذهب عون إلى سوريا! ولِمَ يبدي فرنجية حرصه على البيت الماروني، مؤكداً أنه تجاوز دم أسرته في مجزرة إهدن ومستعد للمصالحة مع المتّهم الأول بإراقة هذا الدم؟ أليس في هذا خوف على حلم المارونية السياسية، بل تنشيطه ورسم خريطة طريق له: إلى سوريا در!
ويسألون: أين الحقيقة؟