سعد الله مزرعاني *أطلق فخامة رئيس الجمهورية الكثير من الوعود الإصلاحية لمرحلة ما بعد الانتخابات النيابية. ومن قبيل الحماسة والتأكيد على النية والإرادة والإنجاز، حدّد يوم الثامن من حزيران موعداً لبدء الورشة الإصلاحية. طبعاً ليس سبب تناول الموضوع اليوم تذكير الرئيس بانقضاء حوالى شهرين على الموعد المحدّد. فكما ذكرنا، كان هذا الموعد رمزياً يشير إلى رغبة ونيات وإرادة. سبب التذكير الآن، هو أمر أخطر بكثير. إنه المناخ الذي جرى ويجري في ظله البحث في تأليف الحكومة. وهذا المناخ، كما هو واضح وبارز ونافر ومستفز(!)، يتميّز بأمرين: الأول: الدور الكبير وشبه الحاسم (أو الحاسم) للعامل الخارجي في تأليف الحكومة. والثاني هو تفاقم الانقسام المذهبي (خصوصاً) في البلاد.
في الأمر الأوّل بات يتباهى، الآن، السياسيون والإعلاميون، في تكرار معادلة الـ«سين ــــ سين». ويكاد صاحبها الرئيس نبيه بري يوشك على أن يطالب بإحراز جائزة «نوبل» لتشريع الأدوار الخارجية (يمكن إطلاق حملة «وطنية» للمطالبة بإضافة هذا العنوان إلى عناوين الجائزة)، تقديراً لابتداع الشعار من جهة وللإلحاح عليه و«تشريعه» من جهة أخرى! لم يجد رافعو شعارات الحرية والسيادة والاستقلال ضرراً ماديًّا أو ضيراً معنوياً في الاستسلام لمعادلة الـ«سين ــــ سين» وسوريا طرف أساسي فيها. ليس في الأمر مفاجأة، فهم في ذروة إعلانهم للشعار السيادي المذكور (سمّوا أنفسهم أيضاً «القوى السيادية»)، كانوا لا يفعلون سوى استبدال الوصاية السورية بالوصاية الأميركية.

مقايضة الإصلاح بسلاح المقاومة لا تخدم أيّة أولوية وطنية أو قومية
واليوم نتابع، كما يتابع الآخرون، البيانات الأكثر «سيادية» من فريق 14 آذار، عنينا لجنة الدكتور فارس سعيد (سقى الله عهد فيلتمان)، ولا نقع، أسبوعاً بعد آخر، وبياناً بعد بيان، على أيّ إشارة لتفاقم التدخل الخارجي في شؤوننا الداخلية. لم نكن نتوقّع أمراً آخر، لكنّنا لم نكن نعتقد أنّ «التطنيش» «السيادي» يمكن أن يصل إلى هذا الحد، وخصوصاً حيال العلاقة مع سوريا...
وفي العنوان الثاني من عناوين النقاش «الصامت» حيال تأليف الحكومة، يصدمنا مرّة جديدة تفاقم التقاسم والتحاصص المذهبي إلى درجة أن تصدر «منشيت» أكبر الصحف اللبنانية مؤكّدة أنّ القاعدة التي ستعتمد هي: «لكلٍّ وزراؤه»!
وهذه القاعدة «البليغة» تعني ببساطة، أنّه، كما جرى تعيين معظم النواب سلفاً، من جانب مرجعياتهم المذهبية بموجب «قانون الستين»، كذلك سينسحب هذا الأمر، وبدرجة أوضح وأوقح، على الوزراء.
لا يجري هذا التعيين طبعاً على قاعدة النسبية التي يطالب بها عددياً فقط العماد ميشال عون، بل على قاعدة أن كلّ فريق أي كلّ مرجعية مذهبية، تعيّن وزراءها. سيقع المشكل حتماً في التمثيل المسيحي حيث ما زال الانقسام يميّز هذا التمثيل. وهو وإن كان، موضوعيًّا، أمراً صحيًّا، إلا أنّه في الواقع، حقيقة مفروضة تجري محاولات متعدّدة ومتناقضة الأطراف لرفضها، تأميناً لاجماع مسيحي حول مرجعية، هي تحديداً المرجعية الأم والأساس في «حسن» تمثيل «الهواجس والمصالح» الكبرى للمسيحيين في لبنان، عنينا الكنيسة ومَن تنطق باسمهم أو ينطقون باسمها من السياسيين.
بديهي أنّ مثل هاتين السمتين اللتين تطبعان تأليف الحكومة، لا تشجّعان إطلاقاً على الاعتقاد بأنّ مهمة الرئيس سليمان ستكون سهلة. وفي الحقيقة أنّ الوقائع على الأرض تذهب في غير هذا الاتجاه تماماً. قد يبدو للبعض أنّنا بذلك نشير إلى حجم الانقسام القائم في البلاد وضراوة التنافس على الصلاحيات والأدوار والنفوذ، هو ما يحول دون أن تكون الحكومة المقبلة منتجة وقادرة على الانخراط في ورشة إصلاحية جدية.
هذا أمر مؤثّر حتماً. لكنّ الأمر الأكثر تأثيراً، إنّما يتمثّل للأسف، في تشابه برامج فريقي «الموالاة» و«المعارضة» ومواقفهما (هل يجب الاستمرار في استخدام هذه التسمية أو استخدام أساسها القائم في تسميتي 14 و8 آذار، بعد تطوّرات الوضع في المنطقة وظهور معادلة الـ«سين ــــ سين»؟!... هنا أيضاً لا بدّ من الاعتذار من «فريق» الأمانة العامة لـ14 آذار، بل من الإشفاق عليه!) من قضايا الإصلاح التي كان قد أثارها رئيس الجمهورية. وللتذكير فإنّ ما اقترحه الرئيس قد تناول مسألتين مهمّتين هما: تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية بتحويل «هيئة الحوار الوطني» الحالية إلى نواة لها، والبحث في إقرار قانون نسبي للانتخابات النيابية. سيقول قائلون إنّ العديد من القوى السياسية، وبينها قوى نافذة ومقرّرة في فريقي النزاع والتنافس والتكامل، قد أدرجت في برامجها الانتخابية، بند إلغاء الطائفية السياسية. هذا صحيح. وصحيح أيضاً أن الرئيس نبيه بري قد اقترح نقاش تأليف هذه الهيئة بنداً إضافياً على جدول هيئة الحوار. إنّها أمور إيجابية. لكنّها، للأسف، ليست أموراً جدية. معظمها للمناورة، أو لممارسة الضغوط (من بين أسوأ الأمور أن تتحوّل قضايا إصلاحية مصيرية، بل إنقاذية، إلى مادة مناورة وشطارة!).
إنّ طرفي النزاع والتنافس الأساسيَّيْن، يمضيان أكثر فأكثر، في تعميق أزمة اللبنانيين عبر دفع سلبيات النظام السياسي الطائفي ــــ المذهبي إلى حدّها الأقصى. هذا هو مصدر الخلل الأساسي في قدرة الحكومة العتيدة على الانحياز لمصلحة لبنان واللبنانيين. وهو يكون أيضاً مصدر العرقلة الأوّل أمام نوايا رئيس الجمهورية ورغبته في متابعة «هواياته» الإصلاحية. نستخدم هذا التعبير لأنّ الرئيس قد ارتكب هو الآخر، بعض «الفاولات» في مرحلة إجراء الانتخابات وكانت من النوع الذي يتعارض مع محاولة إعطاء أولوية للإصلاح تتضاءل دونها كلّ الرغبات الفئوية في بناء كتلة كبيرة وسط الانقسام الحاد وغير المسبوق الذي تعيشه البلاد.
لا يعني ذلك أنّ الرئيس معفى من المحاولة، بل من المواجهة. ويجب عدم الاستنتاج أيضاً أنّ مهمة الإصلاح مستحيلة. إنّنا أمام معادلة ذات وجهين: الأوّل: هو تناسل الطائفية وتداعيها وتحوّلها إلى معضلة مذهبية خطيرة. والثاني هو شعور أوساط واسعة من اللبنانيين بأنّ المضيّ في هذا السبيل إنّما يمثّل خطراً على الوحدة الوطنية، بل على بقاء لبنان واحداً وموحّداً.
لقد كنا ننصح دائماً بأنّ تثبيت موقع لبنان في سجلّ شرف الدفاع والمقاومة والانتصار، كان ولا يزال يستدعي تحصينه ببناء وحدة وطنية راسخة ومتينة. هذا الأمر لن يحصل بغير الإصلاح الذي يتحوّل بالتأكيد إلى مهمة وطنية وقومية، وإنقاذية في الوقت عينه. على الأقل يجب، اليوم، على قوى المقاومة ألا تقايض الإصلاح بسلاح المقاومة. تلك خطيئة لا تغفرها أيّة أولوية لأنّها، في الواقع، وكما بيّنت أحداث السنتين الأخيرتين خصوصاً، لا تخدم أيّة أولوية وطنية أو قومية: دفاعية أو هجومية.
يبقى أنّه مطلوب اليوم، أكثر من السابق، استنفار أصحاب المصلحة في التغيير وفي الإصلاح. ذلك يتطلّب تغييراً عميقاً في البرامج والأولويات والخطاب السياسي... وذلك يستدعي قيام أطر وعلاقات وتحالفات في خدمة هذه الأولوية.
وليس بعيداً من كلّ ذلك ما يلقيه الوضع الاقتصادي المتأزّم من أوزار على عاتق اللبنانيين. ذلك أيضاً بسبب ترابطه عضوياً مع أشكال الخلل في النظام السياسي ومع عوامل وعناصر التبعية التي ينطوي عليها (فضلاً عن الفساد والهدر وتغييب المؤسسات والقضاء المستقل والتنكّر للدستور وللقانون...)، يمثّل مادة غنيّة للاهتمام وللنشاط في سبيل بناء الكتلة السياسية الاجتماعية الحاملة مشروع التغيير والمتفاعلة مع قواه والقادرة على فرض تحقّقه.
* كاتب وسياسي لبناني