أحمد الزعتري
لم يكن صعباً العثور على رقم هاتف يعقوب زيادين. إن لم تجده لدى «الحزب الشيوعي الأردني» الذي كان أحد مؤسسيه ثم أمينه العام، فستجده لدى أحد الشيوعيين الشباب. قد يبدو أمراً مريباً أن يستقطب حزب شيوعي شباباً متحمسين في بلد كالأردن، قاوم فكرة نمو الأحزاب السياسية حتى أصبحت مرادفةً للشقاء والبهدلة بالنسبة إلى المواطن العادي. تتذكر وأنتَ تعبر شارع الدمَّام في إحدى ضواحي عمَّان الموفورة، ما أخبرك به «الرفقاء» عن زيادين: يجب أن تبذل جهداً كي يسمعك، وجهداً آخر كي تقبض على تسلسل الأحداث غير المنطقيّ في حديثه، فالرجل قد قارب 88 عاماً. عندما يستقبلك بحرارة فائضة، ويمسك بيدك لدخول المنزل، تكتشف أنه لا يستعين بك للمشي بل أنّه يكسر الجليد من دون ريبة.
في البداية يخبرك عن مرضه، ثمّ يرجع بذاكرته إلى عام 1921 حين ولد في خيمة شعر في قرية السماكية المسيحيّة على أطراف مدينة الكرك (جنوب عمّان). هناك، كان المريض يضطر إلى قطع المسافة بين القرية والمدينة في أربع ساعات على ظهر الخيل للعلاج. وهناك أيضاً، تعلَّم الطفل الأقرب إلى البداوة في مدرسة بدائيّة أسّسها كهنة ورهبان عرب. كان الفقر سيّد الصحراء، إذ كانت القبائل التي تؤجر أراضيها للفلاحين تتعامل بنظام الإقطاع، فترفع الأسعار عند الحصاد حتى يصبح المالكون شركاء في المحصول. هذا النوع من الظلم رسَّخ قناعة لدى الطفل، أن الجنّة في السماء... فوهب نفسه للصلاة.
لاحقاً، عندما أرسله والده إلى دمشق لدراسة الحقوق بعد إلحاح من والدته الأميّة، ذهب الشاب إلى ساحة المرجة ليشاهد تظاهرة تقودها فلّاحات ضد نظام رئيس الحكومة حينذاك، جميل الألشي، ويصرخن «بدنا خبز». ذهل يعقوب من المشهد، فقد اعتقد أن سكان هذه المدينة الحضرية والكبيرة، لا بد أنهم يعيشون في رخاء. آنذاك بدأ الشك يتسرّب إلى ذهنيته المتديّنة: «كنتُ أعتقد أن الصلاة والصوم يحلان المشكلة، لكنهما لا يفعلان... فلا المسيحيّة ولا الإسلام كانا الحلّ».الوعي السياسي حوله كان سطحياً ومبتذلاً: «كنا في قريتي، ولاحقاً في «السلط» حيث درست الثانوية، مع هتلر والنازيّة لأنه ضد الإنكليز واليهود».
في دمشق عام 1943، دخل الطالب الخجول غرفة ضيِّقة وقديمة، عبر درج مهشّم. يأخذ ما استطاع حمله من كتب ليقرأها بنهم ويعثر على ضالّته. كان ذلك مقرّ «الحزب الشيوعي السوري»، وكانت تلك كتب لينين وماركس. تلك الفترة كانت سبباً في تحوّل يعقوب الجذري: غيَّر تخصّصه ليدرس الطب في «الجامعة اليسوعيّة» في بيروت، وأصبح ناشطاً في الحزبين الشيوعيّين السوري واللبناني، لا ينقطع عن محاضرات خالد بكداش، ويحرّض زملاءه على الالتحاق بالحزب.
أول صدام مع الظلم واجهه يعقوب، كان عندما عاد إلى قريته في إجازة عيد الفصح، ليجد أن سكانها محجور عليهم صحياً بسبب ظهور حالة تيفوس. اتضح أن الطبيب المسؤول فرض هذا الحجر بعدما رفض والده رشوته بتنكة سمن. هنا، طبّق يعقوب أول درس له في مواجهة الاستبداد، فرفع برقيّة إلى وزير الصحة، وطُرد الطبيب. عاد زيادين إلى بيروت منتشياً، وتابع نشاطه في «الحزب الشيوعي اللبناني» الذي أصبح يمارس نشاطاته سرّاً، وحاضر في طرابلس عن الشيوعية والنظام الاشتراكي. لم تكن أيامه هناك سهلة. الجفاف، ثمَّ الفيضان الذي ذهب بقطيع أهله من الأغنام، قطع عنه المصروف. حينها ساعدته معلّمة من صيدا ماديّاً ومعنوياً، اسمها سلوى زغيب، وشاركته الهمّ العام من خلال خدمة اللاجئين الفلسطينيين، وشاركته حياته عندما تزوّجا لاحقاً.
وجد الطبيب الشاب عند تخرّجه عملاً في مستشفى «أوغستا فيكتوريا» أو «المطلع» في القدس، فضمن من خلاله مأوىً ومصدر دخل. هنا أيضاً عاش أفكاره الشيوعيّة. أضرب مع كامل أطباء المستشفى وممرّضيه عن العمل، إثر قرار وكالة الغوث بإغلاق المستشفى، ونجح في النهاية بالتصدي للقرار. آنذاك، قابل الرفيق يعقوب مندوب وكالة الغوث الأميركي «الملوّن»، فنصحه: «عد إلى أميركا ودافع عن حقوق الملوّنين، عوضاً عن إلحاق الأذى بضحايا العدوان الأميركي الإسرائيلي».
في القدس أيضاً لم يكفّ الدكتور يعقوب عن العمل السياسي، إذ ازدادت شعبيته بين المقدسيّين بعد التصدي لقرار إغلاق المستشفى، حتى جاءت انتخابات 1956 وفاز فيها عن مقعد القدس إلى جانب خمسة شيوعيين في الضفّتين، ليكون أول صعود رسمي للشيّوعية في الأردن وفلسطين.
كان كلُّ شيء في الأردن يبشّر بالخير بالنسبة إلى الشيوعيين، وخصوصاً حكومة سليمان النابلسي الوطنية. كل ذلك، أسهم في «رفد آمال الناس بحكم وطني ديموقراطي»، كما يقول زيادين في مذكّراته «البدايات». في ذلك الوقت، شُكّلت لجان لمكافحة الفساد، وأُجريت المفاوضات لإلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية، وسُمح للحزب الشيوعي بإصدار جريدة «الجماهير» الأسبوعية... إلى أن أقيلت حكومة النابلسي، وبدأت مطاردة الوطنيين والشيوعيين، ليقضي يعقوب 12 عاماً في المعتقلات. آنذاك كانت زوجته وابناهما، خليل وخالد، قد هاجروا إلى عالم آخر، إلى ألمانيا الديموقراطيّة.
كان معتقل «الجفر» يرمز إلى نهاية العالم. المعتقل الذي أقامه قائد قوات البادية البريطاني غلوب باشا في جنوب البادية الأردنية للحماية من غزوات البدو، ضمَّ عدداً من الرموز الوطنية: بهجت أبو غربيّة، فؤاد نصّار، منيف الرزّاز، آمال نفّاع وغيرهم. حوّله المعتقلون إلى مدينة صغيرة تضم مزرعة للخضار والفاكهة، مراكز للترجمة، ومحاضرات تثقيفية وتعليمية، وعيادات طبية لمعالجة المعتقلين والسجّانين وعائلاتهم. وبعد الإفراج عنه في 1965، عمل في المعترك السياسي في الأردن، ثمّ أمضى 20 عاماً في ألمانيا، ليعود بعد ذلك إلى بلده، بعدما أصبحت عائلته غريبة عنه.
ماذا يفعل الدكتور الآن؟ بعد تقاعده من الحزب، ما زال يرى الأمور كما هي: فلا تعارض بين الماركسية والدين «كلاهما يدعو إلى نبذ الظلم والفقر»، والماركسية هي «الحلّ الوحيد أمام التوحّش الرأسمالي»، ولا حل لإصلاح الأردن إلا بملاحقة الفاسدين: «منذ 50 سنة ونحن نقول الأمور نفسها عن الفساد، لكن لم تجرِ ولا محاكمة... هناك انهيار خلقي، لا صحافة حرة ولا نواب ولا أحزاب ولا ديموقراطيّة، بل حكم فردي».
لا تنقطع الاجتماعات عن منزل زيادين، يقرأ لمدة 7 ساعات يومياً، وخصوصاً في نقد الشيوعية ويتابع «الأخبار» و«السفير» البيروتيّتين و«الأهالي» القاهريّة على الإنترنت... يحلم أحياناً بكوابيس يملأها رجال شرطة واستخبارات وسجن: «هذا إحساس بالفشل... بعد 65 عاماً من العمل، تجد أن الفقر ما زال موجوداً، أطفال يُرمون في حاويات الزبالة، نساء يبعن أنفسهن، لصوص أصبحوا باشاوات، دماء تسيل في فلسطين والعراق». لكن عندما يذهب الدكتور إلى قريته ويقابل من بقي من مجايليه، يقولون له: «يخرب بيتكم إنتو الشيوعيين، قبلكم لم يكن في السماكية لا مي ولا كهرباء ولا تلفونات ولا عيادة».


5 تواريخ

1921
الولادة في قرية «السماكية» على أطراف الكرك (جنوب العاصمة الأردنية)

1941
التحق بمعهد الحقوق في دمشق، ثمّ درس الطب في «الجامعة اليسوعيّة» في بيروت

1951
أسهم في تأسيس «الحزب الشيوعي الأردني» ليفوز عنه في انتخابات 1956 عن مقعد القدس

1987
انتُخب أميناً عاماً لـ«لحزب الشيوعي الأردني» وحتى عام 1997

2009
ينشط في رابطة الكتّاب الأردنيين، وله كتابان «البدايات» (1977) و«ليست النهايات» (2006)