محمد بنعزيز *نشرت الصحف المغربية صورة زعيم حزب «الأصالة والمعاصرة» يتجول ليلتقي أنصاره في مختلف مناطق المغرب. تظهر الصورة الزعيم محاطاً بحزام من الحراس يتبعهم آخرون بكلاب شرسة لتأمين سلامته البدنية، كما نشرت الصحف صوراً عن وفاة 11شخصاً في تدافع بعد حفل ساهر أحياه مغنٍّ شعبي في مهرجان بالرباط.
حظيت هذه الصور بمقالات ثورية وتعليقات مندّدة وراديكالية في الصحف ومواقع الإنترنت، وخاصة أن زعيم الحزب هو السيد فؤاد عالي الهمة صديق الملك، بينما منظم المهرجان هو منير الماجدي السكرتير الخاص للملك.
تزامنت هذه الحملة مع محنة الأحزاب لتحديد مرشحيها للانتخابات الجماعية (البلدية). محنة سببها سرعة تغيير المرشحين «الرّحل» لانتماءاتهم مثل تغييرهم لجواربهم. حتى أن المرشح نفسه، وقبل أيام من انتهاء آجال وضع الترشيحات، لا يعرف الحزب الذي سيتقدم باسمه، وعندما تسأله يجيب أنه «سيرى».
مع اشتداد هذا الترحال، دخلت الأحزاب الثلاثين القديمة، أي التي يزيد عمرها عن عام، في صراع مع الحزب الذي لم يكمل عامه الأول، ومع ذلك استقبل آلاف الرحل وصار لديه فريق برلماني من 100 نائب.
سبب الصراع والنواح هو أن الأحزاب القديمة التي سبق لها أن استفادت من الترحال السياسي، تعرضت لنزيف بشري، لأن أعيانها الأساسيين التحقوا بحزب صديق الملك بحثاً عن فرص أفضل. لتخفيف صوت النواح، تدخلت وزارة الداخلية لوضع بعض القواعد الأخلاقية في الحياة السياسية، وذلك بمحاولة منع تقدم المرشحين الرحل للانتخابات.
في أثناء هذا السجال، ماتت امرأتان دهساً في تدافع على باب مدينة سبتة المحتلة، وهو باب تعبره آلاف النساء يومياً في ظروف مهينة لتهريب السلع من المستعمرة الإسبانية، لكن هذا الحادث نُسي بسرعة، لأنه غير نافع في تسخين الأجواء الداخلية. هذه وقائع متناثرة وسطحية، أي أنها لا تستحق التحليل. سيعتبرها القارئ كذلك، أعترف، ولكنّني أردّد مع المؤرخ البريطاني الماركسي إريك هوبسباوم في مؤلفه «عصر رأس المال» أن «الظواهر الأكثر سطحية تكون، في بعض الأحيان، هي الأكثر عمقاً».
والعمق الذي يتجلى في «اللخابيط» التي عدّدتها هو أن الفاعلين، السياسيين أو اللاسياسيين، لا يملكون لا تصوراً متماسكاً للمستقبل، ولا أجندة للنقاش الوطني. لذا ينتظرون حدثاً ما ليعلّقوا عليه، وبعد يومين يبرد ذلك الحدث فيتصيّدون آخر وهكذا.
ولأنّ التعليقات قد بنيت على العابر، فهي مجرد مهاترات هزيلة ورتيبة... ومما يزيد من رتابتها أن الأحزاب تفتقد خطباء مفوهين، بل تعتمد على أشخاص يخطبون مرة كل خمس سنوات، لذا لم تتح لهم الفرصة لصقل أفكارهم ونبرتهم وحركات أيديهم ووجوههم، وهم يرمشون بسرعة ويرتبكون من أي سؤال مباشر، وغير مؤهلين للفصل بين تقديم المعلومة من جهة والتحليل وإبداء وجهة النظر من جهة أخرى. أما إذا كذبوا فيشربون نصف كأس الماء الموجود أمامهم. لذا فإن خطاباتهم بلا بنية بيداغوجية.
حين تبرد المهاترات تبدأ النشرات الإخبارية الرئيسية على القناتين المغربيتين بأخبار حوادث السير المفجعة، وأسعار الطماطم والبطاطس المستقرة، وبصور جمعيات صغيرة كريمة توزّع مرة في العمر دراجات أو أرانب على أطفال ونساء في العالم القروي. ولأن النشرات تقدم بالعربية والفرنسية والأمازيغية والإسبانية، تتكرر الصور نفسها.
بسبب هذا الاجترار، رحل المشاهدون لمتابعة القنوات الأجنبية، ولم يثر هذا غضباً إلا بعدما تبع الإعلان المشاهدين فانخفض دخل القناتين، لكن الخط التحريري بقي على حاله، مما يثبت حالة عجز مزمن عن الابتكار. وعلى الصفحات الأولى للجرائد، أخبار عن ذبح خنزير واغتصاب طفل وضبط 23 طن مخدرات.
مع وضع كهذه، تبدو الانتخابات المقبلة وكأنها سيناريو فيلم شوهد من قبل، ويُعاد بثه بعد منتصف الليل لملء الفراغ. وحين نشرتُ على موقع إلكتروني مقالات تدعو الشباب للتسجيل في اللوائح الانتخابية، لأن السياسة هي الطريق الوحيد للتغيير، تعرضت لهجوم شرس من المعلقين الذين وصفوني بالحالم الساذج... ومن يتصفح تعليقات الشبيبة على الموقع، يطالعه يأس فولاذي ناتج من ترسخ العبث. هذا هو المشهد على وسائل الاتصال الجماهيرية: التلفزة والجريدة والإنترنت.
في حديث الناس، ثمن البطاطس سابق على أخبار الانتخابات، وقد بدأت وزارة الداخلية توزع بطاقات التصويت على الناخبين في منازلهم، وعددهم 13مليوناً، بينما بقي 7 ملايين لم يتقدموا أصلاً بطلب التسجيل في اللوائح الانتخابية. وإذا أضفنا لهم أولئك الذين يقسمون بالله العظيم أنهم لن يصوتوا، فإن المسافة بين السلطة والناس تظهر شاسعة، مما يخلق تصحراً سياسياً كبيراً، سواء شارك الناس أو لم يشاركوا، فهم لا ينتظرون أن يخرج «غودو» من صناديق الاقتراع، ولا يهم من سيفوز، لأن فوزه أو خسارته لن تغير شيئاً، فكل السلطات بيد الملك، وهي في عطلة مدتها شهر، والمنتخبون يتناحرون على الفتات، وهذا التناحر خبزي وليس فيه معنى سياسي، لأن الانتماء الحزبي للمرشحين الرحل يتغير بسلاسة، رغم المهاترات.
لكن ماذا لو كانت تلك المهاترات هي حقيقة مغرب اليوم؟ فحماية صديق الملك بكلاب شرسة دليل على شدة بأسه وتزاحم الناس للاتقاء به. وعدم حاجة زعماء الأحزاب الأخرى لكلاب حراسة دليل على هوانهم على الناس. أما التدافع على سهرات الرقص فمعناه أن سكرتير الملك يقدم للمغاربة ما يريدون. فحضور 70000 شخص سهرة مغنٍّ مدمن على الكوكايين أمر دال بقدر دلالة عدم حضور أحد نهائياً لمحاضرة عبد الله العروي في المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء.
أما أن تطالب الأحزاب من وزارة الداخلية أن تُخلّقها وتضبط لها «مناضليها»، ففي هذا الأمر طرافة لا حدود لها، ويدل على أن الأحزاب لا تضم أشخاصاً أطّرتهم بل قبلت كل السياسيين الموسميين. وهذا إقرار من الأحزاب وتنظيماتها الموازية بعجزها عن الاستقطاب، وقد تجلى ذلك في نتائج انتخاب ممثلي الموظفين والعمال يوم 15/05/2009، حيث حصل المرشحون غير المنتمين لأية نقابة على المرتبة الأولى.
في وضع كهذا، يسود ركود سياسي تعبره زوابع من المهاترات، في كل مهرجان يهاجم صديق الملك جهة ما، بل هاجم حتى وزارة الداخلية التي كان يديرها! تثير تلك الهجومات ردود أفعال متشنجة، يزعم المحللون أن الحزب الوليد هاجم، عادى ووحّد الجميع ضده، ولكنهم لا يجزمون في مدة تلك العداوات، إذ يمكن أن تنتهي غداً صباحاً بمكالمة هاتفية تعرض منصب بواب وزارة. مما يجعل المراقبين ينظرون لتلك الهجومات كفقاقيع استدراج، تنفجر بسرعة ثم يعود الوضع لحاله.
ما هي المصطلحات السياسية الملائمة لوصف المرحلة؟ اكتئاب سياسي؟ تعايش مع الخواء؟ نادرة هي المقالات التي تحلل بمصطلحات سياسية. السائد هو أن تكتب الصحف في الشتاء «البرد قارص»، وفي العيد «ارتفع ثمن الكبش»، وفي رمضان «الصائمون منفعلون»، في الحر «الناس عرقوا». وقد انخفض مستوى الكتابة إلى مستوى حديث الحمّام والمقهى، حديث بسيط عامي، امتداد لليومي.
ورغم الغلاء والأزمة الاقتصادية، لا تواجه الدولة أي حركة مطلبية منظمة. الجهاز الأمني مطمئن، والمهرجان المقبل سيعرف زحاماً أكثر من سابقه، وكلاب الحراسة ستجد عملاً دائماً.
هذا توصيف بمنظور يتدحرج مع الأحداث، لكن لو أخذ الملاحظ مسافة، فسيسجل أن الجماهير والنخب قد استولى عليها ما سماه ماركس «البلادة اللعينة»، لذا فهي تتحمل العبث وتتعايش مع الخواء واللخابيط والطحالب الانتخابية بصبر عجيب.
* صحافي مغربي