ريمون هنّودالسنديانة الحمراء تعود ملكيتها إلى أقدم حزب في لبنان، تأسّس في العام 1924 وما يمنع اليباس عن أغصانها، وما يتيح لها أن تبقى حمراء وامضة مفعمة بالحيوية، هو أن القيّمين على العناية بها هم من أصحاب الفكر والمنطق، تقدميون أباً عن جد. وكم من فارقٍ شاسع مرعب بين مَن هم تقدميون أباً عن جد وبين مَن هم إقطاعيون أباً عن جد لا شغل شاغل لهم إلا وهب عروشهم إلى الأحفاد وأحفاد الأحفاد. سر الصفاء الذهني لدى الإنسان الشيوعي هو أنه بحد ذاته مدرسة في العمل الديموقراطي والديموقراطية داخل الحزب سمة كبيرة من سماته الوطنية، تسكر الشيوعيين عند النهل من ينابيعها حتى الثمالة. ولسخرية القدر أن يكون المنطق الأعوج قد ساد في التعامل مع الحزب الشيوعي المشكّل لرأس حربة المعارضة اليسارية العلمانية في لبنان في فترة ما قبل تحضير اللوائح الانتخابية. ويبدو أن الجامع المشترك ما بين المعارضة اليسارية العلمانية والمعارضات اللبنانية والمتمثل بالتصدي لعدو واحد لا ثانيَ له لم يكن كافياً لتقتنع تلك المعارضات بأهمية مشروع الحزب السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي يشكل مدخلاً لحل جذري ينقذ البلاد من مخالب مشاريع إمارات المذاهب والطوائف.
لا شك أن الحزب الشيوعي مرعب في طروحاته في بلد يسود في منطق التحاصص واقتسام الجبنة والمغانم، لأنه حزب إذا وعد في حال أجرك واعتلى، فإنه يفي، ووعد الحر يبقى ديناً. على عكس تصرفات الكثيرين ممن يطرحون الشعارات الطنانة الرنانة البراقة من باب الطرح والتنظير ليس إلا في غياب كلي لآلية تنفيذ عملي على أرض الواقع.
لا شك أن الحزب الشيوعي بعيد كل البعد عن الفلك السياسي الذي يدور فيه أقطاب فريق الرابع عشر من شباط العاملين سياسياً على خط واشنطن ـــــ الأنظمة العربية المتخاذلة، فضلاً عن أن حيتان المال الذين يشكلون عصب هذا الفريق لا يمكن لهم إلا العيش والتأقلم مع رائحة الطائفية النتنة البغيضة، فالمال هو وقود الطائفية وبفضله تتحكّم الأخيرة بمصائر البشر الذين باتوا سلعة تباع في مزاداتها العلنية ضمن أسواق عهرها بواسطة «سماسرة وباترونات» حائزين على شهادات دكتوراه في هذه المهنة الساقطة.
لا شك أن هنالك صفة رائعة يتحلى بها الشيوعيون تتجلى بعدم نكران الجميل. ولا شك أن للمقاومة الإسلامية جميل كبير على
لبنان.
لقد رفع السيد حسن نصر الله ورجاله الأبطال رأس لبنان عالياً وحققوا ما عجزت عن تحقيقه جيوش عربية برمتها. ولا شك أن العماد ميشال عون أصاب وأحسن عندما أحدث تغييراً جذرياً في ذهنيته السياسية وذهنية شريحة كبيرة من المسيحيين منذ العام 2006 حتى الآن، على الرغم من مآثرته إبقاء الصبغة المسيحية السياسية مسيطرة على نسيج تياره. ولكن ما هو غير مقبول أن يكون الشيوعيون بالنسبة إلى فريق المعارضات اللبنانية في موقع «استلشاق» ولامبالاة وتفشي مقولة أن «ناخبي الشيوعي في الجيبة». وهنا عدة أسئلة تطرح نفسها: هل المطلوب إضعاف حزب «النخب الفكرية العملاقة» الذي كان أول مَن أسس المقاومة ضد الكيان الصهيوني الغاصب منذ استشهاد المناضل عساف الصبّاغ ابن بلدة إبل السقي الجنوبية في العام 1939 أثناء القيام بواجب المقاومة الوطني؟ هل المطلوب إضعاف الحزب الذي أسس قوات الأنصار والحرس الشعبي بين 1968 و1970 وصولاً إلى تحرير بيروت من رجس الاجتياح الصهيوني عام 1982، عندما شكل الحزب رأس حربة التحرير بقيادة المناضل الشهيد جورج حاوي أبو أنيس؟ هل المطلوب إضعاف حزب يملك الحلول الناجعة للكارثة الاقتصادية الاجتماعية المزمنة ويملك الحلول الكفيلة بمنع حمامات دماء مستقبلية حتمية نتيجة سياسة المحاصصة المتواجدة في قاموس البدعة المسماة ديموقراطية توافقية؟ لمَ الانزعاج من حزب حقق رجاله الاستقلال الوطني عام 1943 كفرج الله الحلو ونقولا الشاوي ومصطفى العريس؟ لمَ الانزعاج من حزب ذهب أمينه العام فرج الله الحلو عام 1947 إلى لندن لحضور مؤتمر الأحزاب الشيوعية ورفض رفضاً قاطعاً مشروع تقسيم فلسطين؟ هل المطلوب إضعاف حزب يطالب «رجال الله» عل الأرض بالتوقف عن التدخل في الشؤون السياسية التي لا تمت إلى رسالتهم بصلة ولكنها وللأسف الشديد محببة إلى قلوبهم على ما عداها من أمور أخرى مفيدة؟ لمَ هذا الانزعاج من الحزب الشيوعي اللبناني؟ إلأنّه يدعو إلى بناء المدارس الوطنية ويحرص على هيبة الجامعة اللبنانية وتقوية دورها وتوحيدها؟
إن حزباً حريصاً على أن تسود الديموقراطية الحياة السياسية في لبنان لا شك أنه رافض لكل أشكال الاستكبار والاستعلاء، وهو يرفض أيضاً كل محاولات طمس دوره الذي يشكل خشبة الخلاص في عملية إنقاذ البلاد وانتشالها من بين أنياب الفئوية والمذهبية، وهو القادر الوحيد على الإنقاذ وأجزم بذلك لأن تركيبته الفسيفسائية من جميع الطوائف اللبنانية، وهو في الوقت عينه يشكل طائفة اللاطوائف في بلد كل فرد فيه يعظّم طائفته للمحافظة على امتيازاتها السياسية، في بلد تحولت فيه هتافات الكفاح إلى شعارات للنباح، ويا حسرتي فإن التاريخ سيصاب بداء الكساح، في بلد الاشتغال فيه بالسياسة يختصر بشعار: أنا أعمى ما بشوف، أنا ضرّاب السيوف! في بلد باتت فيه التيجان تعمي البصيرة ويصر الملوك والقطعان على حد سواء على أمل الحصول على لبن العصفور، والويل ثم الويل لمَن يمس ذلك التاج.