نهلة الشهاللعل دخول آية الله العظمى علي حسين منتظري على خط «الشغب والفوضى»، كما تصف الرواية الرسمية الإيرانية الاحتجاجات، سيحمل الجناح الممسك بالسلطة في طهران على إعادة النظر في توصيفاته، كما في أدائه. ففي اصطفاف القوى الجاري، وفي لعبة قياس حجم وإصرار كل طرف، ليس منتظري ـــــ رغم عزلته المديدة ـــــ ممن يمكن تجاهل رأيهم. سيما حين يترافق الموقف مع فتوى دينية ـــــ ليتها تعمّ! ـــــ تقول إن «مقاومة مطلب الشعب محرّمة شرعاً»، ودعوة إلى حداد عام لثلاثة أيام سيكون بلا أدنى شك تمرين قوة. ها هو منتظري لا يقع في فخ عبادة «الآليات الديموقراطية» والافتتان بها، الذي يسود الجميع في إيران، وخارجها، بل يذهب إلى لبّ الموضوع: من أن هناك خلافاً هو من العمق والخطورة بحيث لا يحلّه الاكتفاء بالسجال على عدد الأصوات.
هل حدث تزوير أم لم يحدث؟ وما حجمه؟ إنه جدال خارج الصدد، لأن القطع فيه مستحيل، ومن النزاهة الاعتراف بأن كل دلائل في اتجاه، تقابلها دلائل تنقضها. ثم إن الأحداث الجارية اليوم في إيران أهم بكثير من حصرها في إطار كهذا، هو علاوة على عقمه لا يعبّر عن أهمية اللحظة، ولا يحمل دلالاتها. فلنفترض جدلاً أن أغلبية المصوّتين أعادت فعلاً انتخاب أحمدي نجاد، لأنه يروق الفئات الأكثر بؤساً، لأنه يحوز رضى مرشد الثورة السيد خامنئي، لأنه يجيد الخطاب الأقرب إلى الغرائز والأكثر تطابقاً مع المعتقدات البديهية لعموم الناس، وهي عموماً محافظة، لأن الاستفزاز والاستعراضية اللذين ينتهجهما يجعلانه يظهر كأنه الأشد تمسكاً بتحقيق عظمة إيران... لنفترض إذن أنه الفائز، فهل تنتهي المشكلة؟
ما ظهر خلال الأيام العشرة المنقضية منذ الانتخابات هو عدم توافر القنوات الفعالة لاستيعاب الخلاف القائم، ولمنع انزلاقه إلى صراع عنيف ودموي في الشارع. يعني ذلك أن الآلية الانتخابية لم تعد صمام أمان، وهي التي كانت قد اعتُمدت واحدة من أدوات ضبط الخلاف بين التيارات من جهة، وقناة للتواصل مع الناس وإشراكهم من جهة أخرى. وكان ذلك يضمن توافر مسرب آخر ـــــ إضافي ـــــ للصراعات/ التوازنات داخل الأجهزة، سواء الدينية منها أو الأمنية والعسكرية، وكتلة المصالح المتشكّلة حولها. وتَوَافر مثل هذه القناة الإضافية بالغ الأهمية في النظام الإيراني، القائم منذ لحظته الأولى ـــــ حتى مع الخميني، رغم كاريزميته، والقوة الهائلة التي منحه إياها النصر على الشاه ـــــ على نبش وتوظيف نظرية ولاية الفقيه التي يخالفها نصف الشيعة، وتخالف هي مسارهم التاريخي، وتجربتهم، مما يعزز ضرورة التوصل الدائم إلى توافقات. ولعل المس بهذه النظرية هو ما قصد التلميح إليه مرشد الجمهورية، حين خرج على الناس يوم الجمعة الفائت، معتبراً أن المحتجين يهددون النظام السياسي القائم. ولكن خامنئي لم يفعل أكثر من السعي إلى استعادة الانضباط بواسطة الاعتداد بالآلية الانتخابية بوصفها إجراءً تقنياً، وبواسطة التهديد أيضاً بعواقب الأمور... ما كانت ترجمته في اليوم التالي عشرات القتلى ومئات الجرحى والمعتقلين، وتشديد قبضة العزل الإعلامي للبلاد.
وهو ما أعلن رسمياً أن إيران تواجه أزمة جوهرية! فكيف يكون كل هذا الذي يجري من فعل بضعة أوغاد، «إرهابيين»، أو «مندسّين» دُرِّبوا على يد البريطانيين في البصرة، أو مجرّد «مثيري أعمال شغب وفوضى»؟ قد يكون فاز نجاد في الانتخابات، ولكن هذا الفوز إذا ما صحّ، عاجز عن تمويه المشكلة العميقة القائمة. ولو فاز موسوي لكان الأمر مشابهاً. ليس المقصود هو الإقرار بوجود انقسام في البلاد، فهو من قوانين الحياة، بل سؤال ديناميات إدارته سلمياً، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بالاعتراف بشرعية الاحتجاج، وبشرعية الآراء الأخرى، وإيجاد وسيلة لأخذها في الاعتبار. قد يتمكن القمع من إخماد الاحتجاج، ولكنه لن يختفي أو يزول، بل سيتجذّر أكثر. قوانين مرّت بها تجارب ثورية أخرى، وهي تصح على إيران، وتصرخ بها اليوم تظاهرات الشوارع، كما بيانات القادة من المعارضين على تنوعهم الشديد.
إيران اليوم تحتاج إلى ما هو أكثر من الاحتماء خلف نظرية ولاية الفقيه التي أنجحت الثورة ولا شك، ووفرت قدراً من التماسك لمواجهة الأهوال (الحرب مع العراق والحصار). إيران اليوم، وإذا ما بقينا في المساحة الإسلامية نفسها، تعبّر عنها ظاهرة زهرة إشراقي مثلاً، وهي (في آن واحد!) حفيدة الخميني ورئيسة «جمعية حماية المرأة»، وقد قادت جمعيتها «حملة المليون توقيع» لتغيير القوانين المجحفة بحق المرأة. فهل مجلس صيانة الدستور، أو مجلس الخبراء أكثر شرعية من إشراقي؟ ثم هل يمكنهما إسكات صوتها أو تجاهله؟ وباسم ماذا؟ تلك هي المعادلة التي لا يبدو أن نجاد، ومن خلفه خامنئي، يرغبان في إدراكها أو يقدران على هذا الإدراك.