محمد بنعزيز * مع تزايد أسلمة النقاش العمومي في البلدان العربية، كثر استخدام سيرة الرسول وسيلة جدال للدفاع عن مواقف متباينة، على الصعيد السياسي خاصة. أمام هذه الفوضى، وضع الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية المغربي سعد الدين العثماني، كتيباً عنوانه «تصرفات الرسول بالإمامة»، بغرض إغناء ثقافة المشتغلين بالدعوة والنهضة الإسلاميتين ودرء «تزايد مخاطر سوء فهم الدين، وتجاوز الجمود والحرفية في التعامل مع النصوص، لرفع الحرج عن المسلمين».
يقول العثماني إن تصرفات الرسول القولية والفعلية والتقريرية ليست واحدة، بسبب اختلاف دواعي التصرف وأسبابه. ومن تلك الدواعي العادة والخبرة والمشورة والحجة وكون الرسول بشراً. وقد فضل العثماني لفظ «التصرفات» على «السنّة»، لأن الأول أدق وهو يعني «عموم ما صدر منه من تدابير وأمور عملية من قول أو فعل أو تقرير، سواء كانت للاقتداء أو لم تكن، وسواء كانت من أمور الدين أو الدنيا». واختار المؤلف التركيز على ما صدر عن الرسول بحكم الإمامة لأنه «على الرغم من أن وظيفة الرسول الأساس هي تبليغ الرسالة، إلا أنه مارس في الوقت نفسه قيادة المسلمين وإمامتهم السياسية، فاقتضى ذلك أن تكون له من مقام الإمامة تصرفات تختلف عن تصرفاته الصادرة عنه بحكم النبوة والرسالة».
يركّز العثماني على الجانب السياسي إذن. وقد قسّم التصرفات من حيث إلزاميتها التشريعية إلى تصرفات بالتشريع العام وتصرفات بالتشريع الخاص.
أما التصرفات العامة بالتشريع، فتشمل من جهة أولى تبليغ النص القرآني وما يليه في منزلة الوحي. وتشمل من جهة ثانية التصرفات بالفتاوى، وفيها يترجم الرسول عن الله ما وجده في الأدلة.
ورغم أن الفتاوى حالات خاصة، فإنها تعمَّم، «لأن حكم الشريعة يثبت بقول الشارع لا بسؤال السائل»، وهذه تصرفات ملزمة لا تناقش، وهي من عند الله ولا دخل للرسول في محتواها. ثم هناك التصرفات بالتشريع الخاص، والأساسي فيها، حسب العثماني، هو أنها غير قابلة للتعميم، ومنها:
ــ تصرفات بالقضاء، وهي تخضع للقاعدة القانونية المطبقة ولثبات الوقائع المعروضة.
ــ تصرفات خاصة تجاه حالات لا تقبل التعميم، مثل إجازة لبس الحرير لمن به علة.
ــ تصرفات غير تشريعية ويدخل فيها الأصوليون هواجس النفس والحركات البشرية كتصرف الأعضاء، وفيها الأكل والشرب والتجارة والزواج والصناعة، وهي تخضع لتجارب الناس ومعارفهم وهم أعلم بأمور دنياهم...
ــ التصرفات بالإمامة، وهي بيت القصيد في الكتيب ككل. يقول العثماني «وهي تصرفات منه صلى الله عليه وسلم بوصفه إماماً للمسلمين ورئيساً للدولة، يدبر شؤونها بما يحقق المصالح، ويدرأ المفاسد، ويتخذ الإجراءات والقرارات الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية في المجتمع». وقد أورد الزعيم الإسلامي هذه التصرفات في باب ما هو غير ملزم في السنة. وهذا مدخل عظيم يرفع الحرج ويوفر للإسلاميين المعتدلين باب مناورة ممتازاً في وجه الاتجاهات المتشددة التي هاجمها العثماني قائلاً «لقد أصاب التعامل مع الأحاديث النبوية لدى بعض الاتجاهات نوع من عمى الألوان. فلم تكن تفهم أقواله وأفعاله إلا على طريقة واحدة».
واضح أن لهذا المبحث الذي يناقشه العثماني أهمية كبيرة، وستكون له تطبيقات سياسية مهمة، لأن الكثير من الأحاديث النبوية تُستخدم قواعد تشريع عامة في قضايا هامشية، وتترتب عليها معارك ضخمة.
يصل العثماني إلى أن الدين وحي والدنيا رأي واجتهاد محض للرسول، بدليل أنه كان يشاور صحابته في الأمور السياسية، ولو كانت شرعاً لما تشاور فيها. ومعلوم أن الاجتهاد غير ملزم، وعليه فتصرفات الرسول بالإمامة غير ملزمة لأي جهة تشريعية أو تنفيذية بعده. وهذا التمييز ممتاز لمعالجة الانحرافات التي تحْدث لدى الإسلاميين الذين يستغلون أحاديث الرسول للتضييق على أنماط الحياة. يقول العثماني «ومن الأخطاء الشائعة في فهم النصوص النبوية اعتبار تصرفات جزئية بحكم الإمامة شرعاً عاماً للأمة، وهذا باب واسع للجمود والغلو في فهم الدين».
والواضح أن كتيب العثماني جاء لفتح باب الاعتدال وتسبيق المقاصد على المظاهر. يقول إن تصرفات الرسول بالإمامة مرتبطة بمقاصد ظرفية، فهي خاصة بزمانها ومكانها وظروفها، لذا «على الأئمة وولاة الأمور بعد الرسول ألا يجمدوا عليها»، لأن أوضاع شبه الجزيرة العربية في القرن السابع مختلفة عن أوضاع العالم الإسلامي في القرن الواحد والعشرين. وسيشمل هذا التجديد الفقه السياسي، إذ سيتوافر على أساس منهجي وصلب للعديد من القضايا المطروحة على الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ومنها:
ــ إن التفرقة بين أنواع تصرفات الرسول تعدّ أساساً للفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ــ تُبين سمات التصرفات النبوية بالإمامة أيضاً، أن الدولة الإسلامية دولة مدنية لا دولة دينية، وهذا ينزع كل عصمة أو قداسة عن ممارسات الحكام وقراراتهم. فإذا لم يكن الرسول معصوماً بصفته السياسية، فكيف يكون الحكام المسلمون من بعده؟
ــ تأكيد تاريخية التجربة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، والنظر إليها كنتاج بشري نسبي ولا يجوز أن تتحول إلى جزء من الدين.
بهذا التقسيم المنهجي بين الديني (المقدس) والنسبي (الدنيوي) في تصرفات الرسول، يكون سعد الدين العثماني قد أعاد قراءة السنّة لزيادة هامش الممارسة السياسية للإسلاميين. صحيح أنه لم يصل إلى قاعدة «ما لله لله وما لقيصر لقيصر»، لكنه بات قريباً منها بحس براغماتي يمهد لتحقيق مكاسب مختلفة:
ــ فقد جعل العثماني تصرفات الرسول البشرية غير تشريعية وبالتالي غير ملزمة، ومن الآن فصاعداً لن تقتصر «الإسلاموية» على من قلد لباس الرسول ولحيته وصار «متأفغناً»، أي يمكن الإنسان أن يكون إسلامياً بربطة عنق وبذلة مصممة في باريس.
ــ وسيتمكن المسلمون الأصوليون من الاستفادة من ثمار العصر بفضل التجديد الديني، وسينتقدون الحكام دون أن يتهموا بعصيان أولي الأمر.
ــ سيتمكن الإسلاميون من الرد على خصومهم العلمانيين الذين يتهمونهم بالجمود والتحجر ومعاداة الديموقراطية. فحسب العثماني، دولة الإسلام ليست دينية وفيها فصل للسلطات.
ــ يجعل العثماني ممارسة الرسول للقيادة السياسية أمراً نسبياً، وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام الإسلاميين المعتدلين لتبني أشكال الحكم الحديثة وليكونوا إسلاميين وديموقراطيين.
تخريجة زعيم حزب العدالة والتنمية لحل أزمة الفكر السياسي الإسلامي مثيرة. بقي عليه أن يقنع أولاً إخوانه في الحركة الإسلامية بأن التصرفات السياسية للرسول غير تشريعية. وأن يقنع ثانياً خصومه بأن الإسلاميين لا يعتبرون السياسة جزءاً من المقدس، وبالتالي يمكن أن يصيروا نصف علمانيين!
* صحافي مغربي