صحافي فرنسي (ما زال) يشهد للحق!ليال حدادمهما التقيت ريشار لابيفيير، ومهما تحدّثت معه في شؤون العالم وقضاياه، سيبقى هذا الرجل يدهشك بأفكاره البسيطة والواضحة والموثّقة. هو الكاتب والباحث المعروف، وهو أيضاً المواطن الفرنسي الغاضب من حكومته، والصحافي الذي رفض المساومة على مبادئه. رغم ذلك، يرفض الرجل الخمسيني إحاطة حياته بهالة من الغموض، أو الترويج لنفسه في صورة المناضل المضطهد، حتى بعد صرفه من عمله رئيساً للتحرير في «راديو فرنسا الدولية» RFI لأسباب سياسية واضحة.
لكن قبل الدخول في كلّ هذه التفاصيل، البداية طبعاً، من إصداره الأخير «مجزرة إهدن أو لعنة العرب المسيحيين» («دار فايار» في باريس، «الفارابي» الطبعة العربية). عنوان الكتاب وحده كان كفيلاً بإثارة بلبلة في الوسط السياسي اللبناني، «سألني سمير جعجع لماذا أريد أن أصدر كتاباً عن آل فرنجية؟» يقول لابيفيير في إطار سرده لردّات الفعل والتعليقات التي وردته. غير أنّ حساسية الموضوع لم تمنعه من استكمال أبحاثه، وإصدار الكتاب وتوقيعه في «فيرجين ميغاستور» أخيراً في ذكرى المجزرة الشهيرة.
لماذا يقرّر صحافي فرنسي الكتابة عن موضوع محلّي ومحدد؟ وما هي الحاجة إلى إعادة فتح هذا الملفّ في ظلّ سياسة «عفا الله عمّا مضى» التي اعتمدها السياسيون اللبنانيون منذ اتفاق الطائف (1990)؟ علامات استفهام كثيرة يزيلها لابيفيير بحركة يد «من خلال الأبحاث والوثائق والتحليلات والشهادات، توصلت إلى أن اغتيال طوني فرنجيّة كان الخطوة الأساسية الأولى التي قامت بها إسرائيل على طريق تصنيع بشير الجميّل زعيماً مسيحياً مطلقاً في الطريق إلى رئاسة الجمهوريّة». يبدو واثقاً من أهمية عمله: «العودة إلى التاريخ ضرورية للتوصّل إلى مصالحة مسيحية حقيقية، وليست شكلية فقط».
إنها المصالحة إذاً التي تشغل بال الصحافي الفرنسي، العارف بخبايا السياسة اللبنانية وأسرار الشرق الأوسط. طبعاً، ليست هذه زيارته الأولى إلى لبنان، فعلاقته بهذا البلد تعود إلى أيام دراسته عند الآباء اليسوعيين، حينها كانت برامج تبادل التلاميذ بين فرنسا ولبنان أساسية، وكان نصيبه أن يزور مراراً «بلاد الأرز» كما يسمّيها.
هكذا أصبح لبنان مقصداً له حتى أيام الصيف حين كان يرافق والدته، ومعهما شقيقه لزيارة أصدقاء، وتمضية أسابيع الصيف في مختلف المناطق اللبنانية. يومها، كان والده عسكرياً في البحرية الفرنسية وكثير السفر، فاقتصرت حياته بمعظمها على أمّه وشقيقه الذي توفي في حادث جبليّ عام 1978.
ثم كبر الصغير، وانضمّ إلى صفوف «الحزب الاشتراكي الموحّد» بقيادة ميشال روكار، وهو في الخامسة عشرة، وأصبح الشرق الأوسط يمثّل له أكثر من بعض الأصدقاء والطعام اللذيذ. انخراطه في العمل الحزبي شكّل المرحلة الأولى من التزامه السياسي، علماً بأن هذا الالتزام لم يكن الوحيد في تكوين ثقافته السياسية، إذ شكّل انقلاب 11 أيلول (سبتمبر) 1973 في تشيلي، ووصول أغوستو بينوشيه إلى السلطة نقطة محورية في حياته. واكتشف للمرة الأولى دور الولايات المتحدة الأميركية في دعم ديكتاتوريات أميركا اللاتينية وحمايتها.
طبعاً، لا تكتمل القصّة من دون التجربة الفلسطينية التي كانت الزاوية الأخيرة في مثّلث التزامه السياسي. كلّ هذه العوامل دفعته إلى دراسة التاريخ والفلسفة والعلوم السياسية بين سويسرا وفرنسا. غير أنّ الدراسة الجامعية وحدها لم تروِ غليل الشاب المتحمّس الذي راح يتوق إلى «تغيير العالم»... والذي بدأ عمله الصحافي مراسلاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» وعدد من الصحف والمجلات الفرنسية والسويسرية، وعاش متنقلاً بين تشيلي ونيكاراغوا والبيرو.
لبنان مرّة أخرى. نحن في عام 1981، يتمّ اغتيال السفير الفرنسي في لبنان لويس دولامار الذي كان صديقاً لعائلته. عاد هذا البلد الصغير يشغل بال لابيفيير الذي قصده مجدداً بعد عام على هذه الحادثة إثر اغتيال بشير الجميّل، ومجازر صبرا وشاتيلا. يتذكّر كلّ تلك الأيام بأدقّ تفاصيلها: «كانت المرة الأولى التي أرى فيها هذه الكمية من الدماء».
ومن مجازر المخيّمات في بيروت، تحوّلت فلسطين إلى قدرٍ يصعب الهروب منه. قصد بيت لحم في عام ألفين، وأقام فيها لأشهر: «مع بداية الألفية الثالثة، أردت أن أكون في المكان نفسه الذي ولد فيه المسيح». هناك في بيت لحم، فهم أن ما كان أبو عمّار يردّده عن أنّ «المسيح فلسطيني» ليس مجرّد شعارات، بل حقيقة ملموسة لكلّ من يعيش في تلك المنطقة. ولريشار أيضاً ذكريات وحكايات كثيرة مع ياسر عرفات: «في كلّ مرة كنت أقصده لإجراء مقابلة صحافية، كان يبدو مشغولاً بحياتي الشخصية، ويسألني إن كنت تزوّجت».
القصة جميلة، بلا شكّ. قصّة نضال وسفر بين أميركا الجنوبية والشرق الأوسط. لكن ماذا عن إسرائيل وعن حلّ الدولتين والسلام؟ يبدو الرجل مرتاحاً مع نفسه وقناعاته: «هذا الكيان هو الاحتلال الأخير على هذه الأرض، ويكفي على الصحافي أن ينقل ما يجري في فلسطين، من دون أي عواطف أو مشاعر، ليدرك العالم فظاعة الحقيقة». هذه الحقيقة التي تسهم الدول الغربية بما فيها فرنسا في إخفائها عن الرأي العام كما يقول. «ساركوزي وقبله شيراك عملا على إضاعة إرث الجنرال شارل ديغول»، يقولها بأسف، هو المعجب والمتأثرّ بتراث الرئيس الفرنسي الراحل.
مرّت أيامه بين فرنسا وسويسرا، وتنقّل من وسيلة إعلامية إلى أخرى، وخصوصاً «التلفزيون السويسري» إلى أن استقرّ في «راديو فرنسا الدولية» في عام 2000 الذي عيّن فيه رئيساً لتحريرها، فكانت خطوته الأولى نقل مكتب الإذاعة الإقليمي في الشرق الأوسط من القاهرة إلى بيروت. منذ تلك الأيام، بدأت مواقفه المناصرة للعرب تثير علامات الاستفهام حوله، إلى أن «طردتني كريستين أوكرينت (مديرة الإعلام الخارجي الفرنسي) من وظيفتي بعدما أجريت مقابلة مع الرئيس السوري بشار الأسد». اليوم انتقلت هذه القضية إلى المحاكم: «وأنا أنتظر من القضاء الفرنسي أن يغسل شرفي المهني ويعيد إليّ كرامتي». وفي انتظار أن ينصفه القضاء الفرنسي، يكمل لابيفيير حالياً عمله في مجلة La Défense المتخصصة بالتحليلات الاستراتيجية والعسكرية التي يجدها أساسيّة لفهم ما يجري في مختلف أنحاء العالم.
في هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تسبّب هذه المسيرة الطويلة والحافلة، مشاكل مع عدد من الأنظمة، وخصوصاً النظام... السعودي. كيف لا؟ وكان هو أوّل من سلّط الضوء على التطرّف الوهابي والمساعدات المالية التي تقدّمها المملكة العربية السعودية ـــــ بتواطؤ خفيّ من الولايات المتحدة الأميركية ـــــ لأسامة بن لادن وغيره من التنظيمات الأصولية. وقد وثّقها كلّها في كتابيه «دولارات الإرهاب ـــــ الولايات المتحدة والإسلاميّون» (منشورات غراسيه، باريس)، و«أسامة بن لادن أو قتل الأب: الولايات المتحدة، السعوديّة، باكستان» (منشورات Favre، لوزان). هكذا أصبح ممنوعاً من دخول السعودية وغير مرحّب به في عدد آخر من الدول. على الأقل، بقي له لبنان.