وائل عبد الفتاحالقائد الكبير صرخ غاضباً في وجه نواب الشعب: «...أنتم هنا بإرادتنا». لم يكن وقع الكلمة عادياً. القائد قالها بعصبية كشفت عن عنف داخلي.
عنف يعتمد على قوّة ونفوذ المؤسسة التي يترأسها... وهي إحدى مؤسسات تمثّل «النواة الصلبة» للدولة كما توصف في أدبيات ما زالت تعتقد أن تشكيلة الدولة كما صاغها عبد الناصر والضباط الأحرار هي التشكيلة النموذجية والمثال الأعلى الذي يصلح لمصر.
لكن «النواة الصلبة» تعبير عن حضور مادي ومعنوي لا وجود له في النظام السياسي. هي مؤسسات لا تحكم ولا تملك. رمز لقداسة تبني الدولة وتقع في أسرها. الجيش في مصر. والمؤسسة الدينية في السعودية. مؤسسة المرشد الأعلى في إيران.
مؤسسات مقدسة. تحكم بنفوذها وقوتها وسيطرتها على أجهزة الدولة وقدرتها على حماية النظام. وتملك توجيه الصراع على السلطة أو حسم قضايا ذات حساسية عليا في الدولة.
مؤسسات كهانة تخلق ازدواجية في نظام تلك الدول. تمنح الشرعية والوجود لأي نظام سياسي، رغم أن الدول الحديثة صنعت كهنتها الجدد وقداستها المختلفة عن أصحاب «النواة الصلبة».
من هذه المؤسسات تستمد الدول صلابتها، ونقاط ضعفها أيضاً. أحداث إيران الأخيرة محورها مؤسسة المرشد الأعلى المقدسة في دولة ديموقراطية، مكتفية بمرجعيتها، متصادمة مع رغبات أجيال جديدة وطبقات مكبوتة في الحريات السياسية، وحريات الحياة خارج النمط «الثوري».
وفي السعودية تفكّك الأجهزة البراغماتية في الحكم سطوة المؤسسة الدينية ببطء. فمؤسسة أولاد الشيخ (الوهابية) شركاء في الحكم. اقتسموا السلطة مع آل سعود. وفي مواجهة تيارات التغيير (في الداخل والخارج) هم الحاجز الحديدي الذي لا بد من إذابته بطريقة لا تجعله يسقط، لأن سقوطه معناه سقوط الدولة.
هذا تقريباً سر التهدئة في إيران، حيث أدرك الإصلاحي (موسوي) أن الشوط يسير أبعد من الفوز على خصمه المحافظ... يسير باتجاه تفكيك نظام الجمهورية الإسلامية.
الصراع بين الطرفين فجّر طاقات لم يدرك حجمها قادة الاحتجاجات إلا عندما انفلتت الشوارع وطاردت قوى حماية النظام... تلك القوة التي خرجت من تحت العباءة... وأطلقت شرارة جديدة لم يفهمها لا الإصلاحي ولا المحافظ.
قوة خارج السيطرة. وأفكار تعيد الغرب إلى عقل الشباب المحمي بأسوار «الثورة» الحديدية، لتختلط أغاني فرق الروك الإنكليزية بالراب الإيراني ويتغير الشعار من «أين صوتي» إلى «نريد استعادة بلدنا».
ثورات افتراضية ضد مؤسسات «النواة الصلبة»، كما يحدث في مصر. لكن الفارق أن الشارع اشتعل في لحظة خصومة بين جناحي النظام في إيران، والأجنحة في مصر أعادت الشارع إلى خلف الأسوار. أما في السعودية، فالتغيير بطيء يرتبط بمزاج نخبوي ورغبات في إمرار تحديث المجتمع لا السلطة.
الوضع في مصر أعقد... من إيران لأنه صراع على الخلافة في لحظة يبدو فيها نظام مبارك من بعيد في حالة تفكك... يوشك على السقوط... لكن ما يؤجل السقوط ويمنع التفكك النهائي هو استنهاض مؤسسات... «النواة... الصلبة» التي تحكم في الظل لقدراتها القديمة ودفاعها عن وجودها.
وهذا ما قد يفسر تحركات واسعة للسيطرة من جانب مؤسسات الظل. إحدى هذه المؤسسات أصبحت تسيطر على المناصب الإدارية في المحافظات... استبدلت طواقمها بطواقم مؤسسة أخرى.
حرب الخلافة في مصر هي نموذج لتعقد التغيير في الدول الثقيلة (في المنطقة). «النواة الصلبة» بدلاً من تنعيمها وتطويرها، أصبحت الأمل الكبير للمحافظة على دول تريد شهوة السلطة السهلة (عبر التوريث) اختطافها... مع الإيهام بالتغيير من الطابع العسكري للدولة إلى الطابع المدني (والمقصود العائلي) ومن العسكرتاريا إلى الليبرالية (والمقصود النيوليبرالية بتوحّشها واستبدادها المبطّن).
هذا هو فخ الدفاع عن القداسة... هو في الوقت نفسه وقوف ضد الانهيار... ومن دون منع التغيير... والميديا الصغيرة تفلت من سطوة الإعلام الرسمي برسائل وصور رمزية بداية من فيديو التقط لحظة اتساع عيني «ندى» بعد رصاصة «الحرس الثوري». وقبل الغياب في الميدان الشهير بطهران نجحت ميديا التمرد في تحويل اللحظة إلى نداء لن يموت... وسيؤرّق «النواة...» المقدسة.
كما استقبلت التليفونات المحمولة في القاهرة رسالة تقول: «الجيش غيّر النظام إلى الجمهورية... ولن يسمح بالعودة إلى الملكية... لا لجمال مبارك». التمرد هنا هو انحياز لأحد الطرفين في حرب خلف أسوار قصور الحكم... بينما دخول الشارع الصراع في طهران نقل التمرّد إلى نقطة خطيرة... قد تكون بداية شق عميق، أو تظل مركز احتقان دائم.
أما في مصر، فرسالة المحمول ليست أملاً في المؤسسة المقدسة، لكنّها عشوائية اليائس.