إيمان الجابر
نشر أوّل رسم له في الصفحة الأولى لجريدة «الأيام»، ولمّا يتجاوز الثانية عشرة من عمره. يومها، أرسل صاحب الجريدة نصّوح بابيل يدعوه إلى دمشق للعمل في الجريدة، مخاطباً إيّاه بلغة التفخيم ظناً منه أنّه رجل بالغ. منذ تلك اللحظة، أدرك علي فرزات أنّ فنّ الرسم الكاريكاتوري هو قدره...
مع كلِّ كاريكاتور يرسمه، يضيء فانوساً جديداً. حوّل ريشته إلى كاميرا تلتقط حبّات العرق على الوجوه المتعبة والمظلومة، وتوثّق وجه الظالم والمستبد، وخلق شخصيات كاريكاتورية صارت تعرف بالشخصيات الفرزاتية. طريقته المميزة والمكثفة في الرسم من دون تعليق أو شرح، جعلته واحداً من أبرز خمسة رسامين عالميين، بحسب تصنيف جريدة «لوموند» الفرنسيّة. قوة الفكرة في رسومه تجعلها تقارب القصيدة أو القصة أو الفيلم السينمائي... يقول: «أرسم من دون تعليق كي أترك مساحة للقارئ للاكتشاف والمشاركة». هذا الأسلوب المفتوح على الاحتمالات ولا يسمّي الأشياء والأشخاص والأزمنة والأمكنة، جعلت فنَّه عالميّ التوجّه من دون التخلّي عن محلّيّته. «لوحاتي حملت القضايا الإنسانية النابعة من محليتها وإطارها المكاني إلى العالم».
رسمة الجنرال الضخم الذي يوزع النياشين على الجائعين بدل الطعام، جعلت كل ديكتاتور عربي يرى نفسه فيها. خلال عرضها في باريس عام 1989، هدّده السفير العراقي حينها عبد الرزاق الهاشمي، ثم واجه تهديداً آخر عند عرضها في لندن عام 2002 من أنصار صدام حسين، ومُنعت الجريدة التي تحوي الرسم من دخول ليبيا، ورفعت عليه وزارة الدفاع السورية دعوى قضائية... أمّا هو فيقول: «لم أترك نظاماً قمعياً إلّا أطلقت عليه كاريكاتوراً. لا أهتمّ بالأشخاص، لأنّهم زائلون، ممارساتهم القمعية هي التي وضعتهم في مرمى ريشتي. فالظالم هو الظالم، والديكتاتور هو الديكتاتور، والمظلوم هو المظلوم في كل زمان ومكان».
اقترن الرسم بالعقاب في وقت مبكر من حياته، منذ كان طفلاً يرسم على الجدران، فيعاقبه أهل الحي، أو يرسم على أوراق العمل الرسمية التي كان يحضرها والده إلى البيت، فيعاقبه والده. يخبرنا مبتسماً: «عندما كان الجيران يقومون بدهن الجدران باللون الأبيض، كنت أراها كورق مصقول تغريني للرسم عليها، فأهرع إلى البيت وآخذ بعض حبات الفحم الأسود وأبدأ بالرسم».
بعدما كرّم في مهرجانات عالمية، قرر فرزات أن يصدر جريدة «الدومري» الساخرة عام 2001 كأوّل إصدار صحافي خاص منذ ما يقارب الأربعين سنة، ويبدو أن السلطة غضّت النظر يومذاك، وهناك من يذهب إلى القول إنها شجعت المشروع. لم يكن يعلم عندما غامر بمبلغ 700 ألف ليرة سوريّة أنّ الجريدة ستنفد منذ العدد الأول من الأسواق، وسيعيد طباعتها ثانيةً، وسيسدّد نفقاتها من عائدات البيع. «غرفتان وصالة وأربعة محررين أنجزوا، وبزمن قياسي ما لم تنجزه جرائد في أبنية ضخمة يصرف عليها الملايين». هذا النجاح الكبير لجريدة لامست هموم الناس، وعبّرت عنهم وعن آمالهم وأحلامهم بالإصلاح وبمحاربة الفساد، لن يصمد أكثر من سنتين. هكذا أغلقت «الدومري» بقرار حكومي. يقول علي ساخراً: «كان أسرع قرار حكومي، صدر ونفذ في غضون ساعة». سحب العدد رقم (116) من الأسواق، وكان قد أطلَقَ عليه اسم «العدد الانتحاري»، لأهمية الأسماء التي كتبت فيه وجرأة مواضيعه. المعنيّون بالنقد اللاذع الذي كانت توجّهه الجريدة مدعومة بوثائق، لم يسكتوا حتى أخرسوا «الدومري». شنَّ بعضهم هجوماً عنيفاً على فرزات، وصل إلى درجة التخوين واتهامه بالعمالة. حتّى إنّ جريدة رسميّة خصصت صفحتين كاملتين لشتمه بأبشع الصفات، مستغلة رسوماً كانت قد نشرت في الجريدة نفسها قبل سنوات. يقول علي، محاولاً إخفاء ألمه من هذه المعركة الظالمة: «أبواب جهنم فتحت عليَّ منذ صدور الجريدة. عندما نخوض معركة مع السلطة، فإنها تفرغ القوانين التي وضعتها من مضمونها، وتحشوها مع ما يتوافق مع مصلحتها. هنا يعزف إعلامها النغمة التي تريدها، ويسحب حقَّك في الردّ والدفاع عن نفسك إعلاميّاً وقضائيّاً. وهي لا تكتفي بهذا الأمر، بل تقوم بحملة تشويه كاملة وبمختلف الأشكال السياسية والعرقية والدينية حتى يظن المرء نفسه من كوكب آخر وليس مواطناً سورياً».
لكن الشارع من مختلف الشرائح تصدّى للدفاع عنه، ووصلته رسائل نشرها في أربع صفحات في «الدومري» يقول الناس فيها للحكومة: «نرجوكم لا تقصفوا رموزنا بإعلامكم، فهذه الرسوم التي تنشرونها الآن لمهاجمة علي فرزات نشرت في صحفكم منذ عام 1990، بأعداد كذا وكذا. نحن نحفظ رسوم علي فرزات في قلوبنا، كما نحفظ قصائد نزار قباني»، هذا ما يتذكّره فرزات. يعلّق: «الشارع لا ينسى من يقف إلى جانبه ويدافع عنه. لطالما وقف الناس إلى جانبي، فهم يعرفون أن التّهمة عندما تأتي من السلطة، فهذا وسام شرف على صدري». وفي العام نفسه الذي أغلقت فيه «الدومري»، أصدرت دار النشر العالمية Cune كتاباً يضمّ أكثر من 350 لوحة من أعماله تحت عنوان «قلم من الفولاذ الدمشقي».
في وقت مبكر من حياته، اختار علي فرزات الوقوف إلى جانب المظلومين والمسحوقين. عمل وهو طالب في عمر المراهقة في المصرف الزراعي حارساً قضائيّاً، مثل كثيرين غيره من الطلاب. «كانوا يعطوننا بارودة ويرسلوننا إلى القرى لحراسة المحاصيل، كي لا يهرّبها الفلاحون المدينون للمصرف. لكنني عندما لمست واقع هؤلاء الفلاحين القاسي وعدم مقدرتهم على معالجة أولادهم المرضى، ساعدتهم على تهريب المحاصيل في الليل، بالاتفاق مع مختار القرية التابعة لمحافظة دير الزور، وكنا نعيش هناك لأنّ طبيعة عمل والدي مسّاحاً للأراضي فرضت على الأسرة التنقل في المحافظات السورية». نسأله ماذا حدث عندما علم المصرف الزراعي بالأمر؟ يجيب ضاحكاً: «طردت من الوظيفة. لم يحاكموني بسبب صغر سني».
شخصية والده القاسية لم تزده إلا تمرداً. «أنا أكثر ولد عوقب في طفولته، بسبب تمردي على القوانين التي تحكم البيت. كان والدي صارماً في تنفيذها رغم أنّني كنت أعرف أنه يخفي في قلبه حناناً وطيبة». على ماذا كنت تعاقب، نسأله. «أردت دائما أن أكون حراً» يجيب علي فرزات. «كنت أتأخر عن موعد المجيء إلى البيت، لأنني كنت أخوض مغامراتي في تحدي الخوف. أتعلق بالنواعير وأقفز في النهر بعد بلوغها أعلى نقطة، أذهب إلى المقبرة في الليل، أدخل مغارة قديمة فتصدم الخفافيش وجهي». أنت معارض منذ صغرك إذاً؟ «أبداً، لا أحبّ أن أكون معارضاً سياسياً إن كان هذا ما تقصدين»... ويضيف أنّ المعارضة والسلطة وجهان لعملة واحدة، وغايتهما الوصول إلى الكرسي. هو نفسه ذلك الكرسي الحاضر على الدوام في رسومه. «أنا فنان حرّ أعارض الممارسات السلبية كالظلم والقهر والفساد. لكنّني لا أؤمن بالأحزاب تحت أي غطاء كانت، وخصوصاً تلك التي تستغل الدين للوصول إلى السلطة».

تواريخ

1956
الولادة في مدينة
حماه (سوريا)

1977
تخرّج من كلية الفنون الجميلة
في جامعة دمشق

1994
كرّم في مدينة مورج السويسرية، بعدما اختارته جريدة «لوموند» الفرنسيّة واحداً من أفضل خمسة فنانين عالميين

2001
أصدر جريدة «الدومري» الأسبوعية السياسية الساخرة، لكنّها أغلقت بقرار رسمي بعد عامين على وجودها

2009
يستعدُّ لإطلاق أول صالة عرض للفن الساخر في الوطن العربي، ستعرض فيها أعمال نحت، ورسوم كاريكاتورية وسينما ساخرة وأفلام كرتون متحركة