حمّى الانتخابات تنتشر وتسري وتستعر في كل البلدان. كل الأنظمة (المتشدّدة في القمع والأقل تشدّداً) تزهو بانتخاباتها، كما يزهو المواطنون باقتراعهم. هناك مثل ابن النازي اللبناني الصغير ممن يلوّحون بإصبعهم المخضَّبة بالحبر أمام عدسات الكاميرا. يبتهجون لمجرّد رؤية صندوق الاقتراع، فيما أنا أبتهج لرؤية صندوق من الحلوى العربيّة (أو التركيّة). التصويت صار إثباتاً للحضاريّة بينما هو بالفعل وسيلة لإسباغ شرعيّة على حكم النخب الاقتصاديّة المُسيطِرة، وللمساهمة في تثبيت وكلاء الاستعمار المُتجدِّد
أسعد أبو خليل*
الاقتراع أحدث معجزة: أبدل مطلب التغيير بوهم التغيير. تضع وريقة في صندوق وتخال أنك تحكم من خلالها. هي تزيّف عمليّة الحكم وتخدّر الناخبين والناخبات: يظنون أن الحكم للشعب لا للنخبة التي لا تكترث للشعب. والمنافسة ـــــ وإن على أشدِّها في الظاهر ـــــ سرعان ما تتحوّل إلى تحالف وقبلات وعناق. والذي وُصِف قبل سنة بـ«السارق والكذّاب والقاتل» استُقبل على الرحب والسعة بعد الانتخابات. لكن السؤال شغل هؤلاء الذين (واللواتي) لا ينتمون إلى أي من المعسكريْن الطائفيّيْن المتقابليْن: لمن نقترع؟ الرفيق سماح إدريس اقترح الورقة البيضاء حلاًّ. لكن المشاركة في عمليّة انتخابيّة حتى لو بورقة بيضاء تسهم في إسباغ شرعيّة على نظام سياسي وانتخابي باطل في أساسه. هناك خيار القعود في البيت أو المشاركة بورقة لاغية، لأن الورقة البيضاء تُحتسب. يمكن مثلاً الاقتراع في لبنان لـ«كسّارات فتوش» ـــــ وهي بالفعل في القلب.
عشت نصف حياتي في لبنان، ونصفها الآخر في الولايات المتحدة، ولم أقترع لمرشّح قطُّ. الكثير من الرفاق اليساريّين (عرباً وغير عرب) اقترع لأوباما هذا العام، وقرّعني لأنني كعادتي لم أشارك في مهرجان الانتخاب. كانت موجة سائدة لمنع التمديد لعهد بوش الفظيع. وهناك منّا من أصرّ على أن الفارق بين بوش وأوباما هو مثل الفارق بين حزب العمل والليكود (أو مثل الفارق بين عقاب صقر وحسن يعقوب). لم أستطع أن اقترع. والاقتراع يفترض إيماناً ولو ضئيلاً بعدالة النظام السياسي والمسيرة الانتخابية، وهذا كان فوق طاقتي وفوق قدرتي على الإيمان بديموقراطيّة التنافس الرأسمالي. ولم أترشّح لمنصب، وإن كان منصب «الزعيم الأوحد» الذي تمتّع به عبد الكريم قاسم ــ الذي مات فقيراً خلافاً للزعماء ــ يُغريني. اتصل بي مرّة قبل حوالى أربع سنوات الراحل بيتر كاميو (المؤسّس والرئيس لـ«حزب الخضر») وعرض عليّ أن أترشّح إلى عضوية مجلس الشيوخ الأميركي عن حزب الخضر. طبعاً، إن فرص الفوز للحزب الذي لا يحوز أكثر من خمسة في المئة من الأصوات في الانتخابات العامّة معدومة، وإن كان مرشحه للرئاسة، رالف نادر، استطاع جذب الكثير من الأصوات في مختلف الولايات عام 2000، مما دفع بالبعض في الحزب الديموقراطي إلى لومه وللأبد على خسارة آل غور. قلت للرفيق بيتر إنني لست ناشطاً سياسيّاً أميركيّاً بالمعنى المألوف، وإنني لم اقترع قطُّ. لا عليك، قال، والحزب سيقوم بكل ما يجب من ناحية التنظيم والإعداد والتمويل، والغاية هي في دفع شعارات ومواضيع لا تحظى باهتمام الحملات الانتخابيّة التقليديّة، وذكر موضوع فلسطين لعلمه بأهميته القصوى في نفسي. عرف كيف يدغدغ مشاعري: ذكّرني بأن الحملة الانتخابيّة ستتيح لي الدعوة إلى قضيّة فلسطين في وسائل الإعلام، ولا سيما في المناظرات التلفزيونيّة ضد السيناتورة دايان فاينشتيْن ـــــ وهي مثل غيرها في مجلس الشيوخ من عتاة الصهاينة ـــــ وتستطيع أن تميّز عتاة الصهاينة في هذه البلاد: هم المتحمّسون والمتحمّسات لثورة (حرّاس) الأرز. ثم بدأ بالكلام اللطيف عن ضرورة التخفيف من حدّة خطابي كي لا نستعدي من يمكن كسبهم، حسبما قال. قلت: أترى ما تفعل يا بيتر؟ تحاول أن تديرني وتسيّرني وتقَولِبني (كما في فيلم «المرشّح» لروبرت ريدفورد) قبل أن تبدأ الحملة الانتخابيّة. اعتذرَ وطلب مني أن أتمهّل قبل إعطاء الجواب. لم يطل تفكيري في الأمر. كتبت له رسالة (أرفقتها على مدوّنتي) شرحت فيها موقفي بالتفصيل. كيف يمكنني أن أدعو الناس للتصويت لي وأنا غير واثق برغبتي في التصويت لنفسي؟ كيف يمكنني أن أشارك في عمليّة انتخابيّة لا أؤمن بجدواها الديموقراطية؟ وكيف يمكن القول بالإصلاح من الداخل فيما أرى أنه يتطلّب أكثر بكثير من الإصلاح؟ شكرته ورفضت الدعوة. ولكن، يمكن في حالات معيّنة أن أقترع.
أنا اقترع لمرشح لا ولم يطلب بركة من رجل دين في يوم من الأيام. لمرشّح لا يقول ـــــ مثل إلياس عطا الله ـــــ أين هو الآن؟ ـــــ إن موقف البطريرك الماروني لا يُعارض أو يُخالف. لمرشّح يناصر أسعد الشدياق (يجب قراءة الفصل عنه في كتاب الرفيق أسامة مقدسي الجديد، «مدافع من الجنة» الصادر حديثاً بالإنكليزيّة) ضد الإكليروس. لمرشح يحذو حذو روبسبيير أو أبي العلاء في عبادة العقل. سأقترع لمن لا يرتدي زي العروبة ليومٍ واحد فقط ولأغراض طائفيّة خبيثة. سأقترع لمن يجاهر بدعوته للعودة إلى اتفاق القاهرة مع تعديله لإعطاء فصائل الثورة الفلسطينيّة حريّة حركة أكبر، مع الإصرار على فك الأسر عن مخيّمات اللاجئين في لبنان، ووقف الإهانات التي يتعرّض لها الفلسطينيّون في لبنان على حواجز الجيش اللبناني. سأقترع لمن يطالب بمعاقبة كل من رفع سلاحه في وجه لاجئ فلسطيني في لبنان. سأقترع ضد من أقام قدّاساً أو قداديس لراحة أنفس عملاء جيش لحد في لبنان: ضد من أقام قداساً لضحايا 11 أيلول مع أنه لم يقم قداساً واحداً لضحايا فلسطين والعراق وأفغانستان. سأقترع مع العقل ضد الشعوذة، ومع العلم ضد زين الأتات. سأقترع لمن يقول إن لبنان لن يكون آخر دولة توقّع اتفاق سلام مع إسرائيل: لمن يقول إن لبنان ملتزم برفض إسرائيل وبدعم تحرير فلسطين وحتى التحرير الكامل والعودة. سأقترع لمن يلتزم برفض مبدئي للرأسماليّة ولمن يقاوم العولمة بكل الوسائل. سأقترع مع الفقراء ضد الأغنياء، مع قوة الضعفاء من دون انتظار ضعف الأقوياء ـــــ كما قال كارل ماركس منبِّهاً. أقترع لمن يؤمّم مشروع سوليدير ويقيم مكانه شققاً لذوي الدخل المحدود، مع الإصرار على محاسبة من انتفع ونصب وسرق وبلف من خلال المشروع منذ إطلاقه الشنيع. أقترع لمن يطالب بمنع الإرث (المالي والسياسي) من أساسه، ومن يرى أن «الإصلاح» يكمن في تأميم مرافق الدولة لا في تخصيصها. أقترع لمن يرفض أن يفصح عن طائفته ومذهبه ومن يطالب بسنّ قانون لمنع أي ذكر للطائفة في القوانين والوثائق الرسميّة. أقترع لمن يترشح لتمثيل المزارعين والعمّال لا الأثرياء. أقترع لمن يطالب بمنع التحريض والفتنة المذهبيّة والتعبئة على أساسها، ومعاقبة المخالفين حتى لو كانوا من سكان السرايا أو من يسيرون بأمر من هاني.
أقترع لمن لا يتهاون في التعامل مع أعوان العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006. من يصرّ على محاسبة كل من قصّر ومن تهاون ومن تعامل ومن تخاذل ومن عرض مواقع للمقاومة على وسائل الإعلام. من يصرّ على محاكمة فريق 17 أيار ويتجاهل مطالب رجل دين طائفي يسعى دوماً لحماية المتعاملين مع إسرائيل. من يرى أن العداء لإسرائيل واجب وطني وقومي وإنساني. أقترع لمن يقسم باسم الذي «خلقا من جزمة أفقا»، لا باسم قسم 14 آذار الطائفي السخيف الذي يتعهّد بديمومة الانقسام اللبناني الطائفي. أقترع لمن ينحني أمام المرأة في الخيمة التي لا تلد إلا جيشاً (كما قال مظفّر النوّاب)، لا الذي ينحني حتى الأرض أمام أمراء النفط وشيوخه. أنا أقترع لشفيق الحوت لا لسمير عطا الله، لناجي العلي لا لبيار صادق.
أقترع لمرشّح فقير معدم لا مال له ليجول بالطائرات الخاصة ولا لباس رسميّاً له ليدخل به إلى ردهات الفنادق الفخمة. لمن يقتات من دون ذلّة ولا سؤال. لمن يتنقّل بين المدن والأحياء بالسرفيس لا بالسيارات الفارهة والقوافل المُصفّحة. أقترع لمن لا ينتمي إلى محاور أو إلى دوائر: من ينتمي إلى الإنسانيّة والثورة الدائمة والمتجدِّدة والخلّاقة. لمن يرى أن إدخال لبنان في منظمة التجارة العالميّة يماثل في خطورته التوقيع على اتفاق 17 أيّار، لمن يرى أن النمو يفترض مخالفة كل توجيهات البنك الدولي وصندوق النقد العالمي.
أقترع لمن لم يفتتن يوماً بالأرزة: من فضّل عليها زيتون فلسطين وبرتقالها منذ نعومة أظفاره. أقترع لمن نبذ الصهيونيّة اللبنانيّة من إنشاء لبنان الحديث مشروعاً استعمارياً رديفاً للكيان الغاصب جنوباً، لمن لم يسامح المطران مبارك (الذي وصفته جريدة «النهار» أخيراً بـ«الوطني») على شهادته أمام اللجان الدوليّة لدعم المطالب الصهيونيّة في الثلاثينيات والأربعينيات. أقترع لمن لا يرى إلا اسم صائب سلام وسعدي المنلا عندما يرى علم الأرزة، ومن يرسم حنظلة فوق الأرزة على العلم. أقترع لمن يقدّر أشجاراً وزهوراً غير الأرزة.
أقترع لمن لم يلفحه «ريح الشرق» أو ريح الغرب. من اختطّ خطاً خاصاً به (أو بها) من دون استعانة بمحور خارجي. من لم ينسّق ترشيحه مع سفارة أو مع مركز استخبارات، ومن لا يطلب ترفيعاً أو ترقية من أنظمة متخلّفة ومتكلّسة. من يرفض أن يتعرّف ـــــ مجرّد التعرّف ـــــ إلى الأمير مقرن أو إلى رستم ريف دمشق. من يعارض التطبيع مع إسرائيل إن أتى من قطر أو أتى من مصر أو الأردن. من يرى أن ضرورة العمل العربي المشترك تفترض هدم الجامعة العربيّة لا دعمها. من يرى فيها أثراً من آثار الاستعمار. أقترع لمن لا يحبّ عمرو موسى ومن يرفض بالقطع مبادرة توماس فريدمان.
أقترع لمن يحترف الحب والصداقة والفن والحريّة (الحقيقيّة لا تلك المرفوعة في شعارات آل الحريري). من يمتهن الرغبة والشوق والتحدّي والمحظور والمجازفة. من يطير عندما يمشي الآخرون ومن ينام عندما يستيقظ الآخرون ومن يأكل عندما يصوم الآخرون ومن يغني عندما يصمت الآخرون ومن يعزف عندما ينصت الآخرون ومن يصرخ عندما يهادن الآخرون ومن يقف عندما يجلس الآخرون ومن يجلس عندما يتأهب الآخرون. أقترع لمن يصرّ على المشي والقيادة «عكس السير». من لا يأتمر إلا بضرورات الثورة والصراع الطبقي. من يخالف القوانين والأوامر، ومن يسنّ قواعد للمخالفة والمعارضة والرفض. من يقول لا ـــــ لا نعم أو «لعم» التي أتقنها ياسر عرفات.
أقترع لمرشحة ترفض أن ترث مقعداً من زوج أو أب أو أخ أو شقيق أو عم أو خال أو جد. أقترع لمرشحة لا تخجل من المجاهرة بمطلب الكوتا النسائيّة بنسبة النصف (على الأقل). أقترع لمرشحة ترفض أن تقرأ خطباً كتبها لها مستشار أو قريب. أقترع لمرشحة تضع مسألة تحرير الجاريات السريلانكيّات والإثيوبيّات المُستعبَدات على رأس أولويّاتها. أقترع لمرشحة ترفض أن تعدّ تلك السيّدة التي أعدّت أطباق الطعام لشارون على خانة النساء، وأن تطالب بمحاكمتها وتقديمها حليقة الرأس أمام القاضي. أقترع لـ(مرشح) ومرشحة لا تستكين في طلب أكثر من المساواة التامة بين الرجل والمرأة من دون اعتبار القانون والدين والتقاليد والعائلة والشرف الرفيع. أقترع لمرشحة تطالب بيوم للمرأة في كل يوم من السنة. أقترع لمرشحة تنحني أمام سيّدات المخيّمات في لبنان، وخصوصاً هؤلاء اللواتي هُجّرن من نهر البارد بأمر من السنيورة وقيادة الجيش وبموافقة كل الأطراف في لبنان. أقترع لمرشحة لا تخجل من المجاهرة بمناصرة النسويّة الجذريّة، لا نسويّة مقاهي الصفحات الثقافيّة. لمرشّحة ناضلت من أجل حقوق المرأة في كل الطوائف لا في طائفة أو دين واحد على طريقة الاستشراق أو «النسويّة الاستعمارية» كما سمّتها ليلى أحمد في كتابها المهم عن «الإسلام والجندرة». أقترع لمن لا تناضل من أجل المساواة بين المرأة والرحل: بل من أجل قلب كل وسائل القوة والسلطة التي يتمتّع بها الرجل على حساب المرأة وبدعم من الدولة والدين والقيم البالية. لمرشحة تؤيّد جوديث بتلر لا قاسم أمين وأفكاره الإصلاحيّة الباهتة أو النسويّة الأرستقراطيّة لهدى شعراوي التي استفظعت كيف يتمتع «سائقها» والفرّاش بحقوق لا تتمتّع هي بها.
أقترع لمرشح يناصر الفقراء والضعفاء ويناضل من أجل إقصاء غسان غصن عن قيادة الحركة العمّالية، ونفيه إلى جزيرة أرواد معاقبة له على تسخير الحركة العمّاليّة لأغراض سياسيّة رخيصة. أقترع لمرشح يجعل نصرة العمّال السوريّين الفقراء على جدول أولويّاته، ويطالب بمعاقبة القتلة والمعتدين الذين لم يتوقفوا عن التعرّض للعمّال السوريّين منذ اندلاع ثورة (حرّاس) الأرز الخبيثة، وخصوصاً في مدينة عاليه. أقترع لمن يطالب بتحقيقات صارمة وجديّة في أخبار انتحارات الخادمات الأجنبيّات والعمّال السوريّين ووفياتهم. أقترع لمرشح يناصر المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان ضد اعتداءات الميليشيات اللبنانيّة وضد اعتداءات الجيش اللبناني الذي لم يفوّت فرصة منذ إنشائه للتهرّب من مواجهة المعتدي الإسرائيلي. أقترع لمرشح يرفض أن يخوض الانتخابات على قائمة تضم متخرّج في مدرسة النازي اللبناني الصغير، حتى لو ترشح على لائحة المعارضة مثل بوسي الأشقر (الذي وعد في بيان الهزيمة بالدفاع عن حقوق...الطائفة). وأرفض أن اقترع لمرشح (أو مرشحة) لم يدخل مخيّماً فلسطينيّاً واحداً في لبنان ـــــ على الأقل. أقترع لمرشح جاهرَ بمعارضة عنصريّة ثورة (حرّاس) الأرز عندما رأى من لا يستحقّ لقب ثوار وهم يضربون باعة العكك فقط للشك في جنسيّتهم. أقترع لمرشح يحضر احتفالات الجالية السريلانكيّة في لبنان ومن لا يخشى أن يُتهم بالاستزلام للنظام السوري إذا ما هو استطاب الكباب الحلبي أو كرابيج حلب.
أقترع لمرشّح يعد بأن يعود إلى البرنامج المرحلي لـ«الحركة الوطنيّة» ـــــ على أقل تقدير. أقترع لمرشح يواظب على محاربة بوادر الإقطاعيّة ومظاهرها في كل الطوائف. من لا يرضى بقانون انتخابي أضيق من مساحة (مسخ) الوطن الصغير. من يصرّ على اعتماد التمثيل النسبي غير الطائفي لفرض نمو أحزاب فوق الطوائف. من يؤمن بنظريّة المؤامرة للتنبّه والتبصّر خشية تجاهل المؤامرات عندما تطلّ بوجهها البشع. أقترع لمن يرفض اتفاق الطائف واتفاق الدوحة وحتى ميثاق 1943. لمن يرفض كل التسويات الطائفيّة والمذهبيّة. لا أقترع أبداً لمن كنت أذكره في وفود «الحركة الوطنيّة» قبل أن أراه في فريق سليم الحصّ قبل أن أراه في فريق الحريري. أقترع ليساري حالي، لا لسابق. أقترع ليساريّة ماركس وباكونين، لا لليساريّة الزائفة الصادرة عن المكتب الإعلامي في قريطم.
ولكن قد أقترع يوماً ما. لا، سأقترع بالتأكيد لأطفال أهلنا في مخيمات اللاجئين في لبنان. لهؤلاء أعطي صوتي وأضيف إليه لفائف من اللبنة والزعتر مُطعّمة بحبي وحناني. لهؤلاء، أكسر صناديق الاقتراع لأصنع منها لعباً خشبيّة وبلاستيكيّة. لهؤلاء، أقطع كل أشجار الأرز في مسخ الوطن لأصنع منها زوارق خشبيّة يبحر فيها أطفال فلسطين إلى فلسطين. لهؤلاء، أجمع كل اللافتات الانتخابيّة لأجعل منها بطانيّات يتدثّرون بها في ليالي الشتاء. لهؤلاء، أمزّق كل صور المرشّحين والمرشّحات ليكتب عليها ويرسم أطفال فلسطين أحلامَهم. لهؤلاء، أجمع كل قطعة سلاح رسميّة وغير رسميّة (ما عدا السلاح المُكرّس لمقاومة العدو الإسرائيلي) وأوزّعها بالقسطاس على أهل المخيّمات ليدافعوا بها عن مخيّماتهم من شرور العدو والصديق. لهؤلاء، ألغي ديموقراطيّة لبنان الزائفة لنجعل من لبنان «هانوي عربيّة». لهؤلاء، أخيط من كل أعلام لبنان أعلاماً فلسطينيّة عملاقة وكوفيّات وأدعها تغطّي على كل الأعلام الأخرى. لهؤلاء، أجمع كل سمك البحر وأشويه لهم. لهؤلاء، أشرّع كل حدود لبنان لينطلقوا منها للثورة. لهؤلاء، أطرد كل أفراد العائلتيْن اللتيْن أمعنتا تآمراً ضد شعب فلسطين في تاريخه المعاصر. لهؤلاء، أزج في السجن كل من رفع سلاحاً أو يداً ضد أهل المخيمات. لهؤلاء، أرفع جسراً للعودة فوق رؤوس القبعات الزرق القابعة لحماية إسرائيل من مقاومة إسرائيل في الجنوب. لهؤلاء، أمنع إلياس المرّ الهزلي من تولّي أي منصب وزاري حمايةً للبنان والمخيّمات. لهؤلاء، أجعل من الكوفيّة الفلسطينيّة زيّاً رسميّاً للعروبة. لهؤلاء، أغنّي أناشيد الثورة من المآذن. لهؤلاء، أسير وراء قطار الثورة الفلسطينيّة ليمرّ في كل مدينة وقرية في لبنان. لهؤلاء، ألتزم الصمت في ذكرى صبرا وشاتيلا كل عام. لهؤلاء، ألتزم شعار عزل النازيّة اللبنانيّة.
لهؤلاء أقطف كل الرمّان لأطعم به أطفال المخيّمات صباحاً ومساءً. لهؤلاء، أهدم مغارة جعيتا وأبني مكانها متحفاً عن تاريخ نضال شعب فلسطين. لهؤلاء، أكتب على لوحة نهر الكلب أن كل الغزاة والمحتلّين لم يغادروا بعد. لهؤلاء، أبيع محتويات المتحف الوطني لأدعم ثوار فلسطين تحت الحصار المضاعف. لهؤلاء، أحفظ عصافير في قفصي الصدري كي يتلهّى بها الأطفال في ساعات الملل. لهؤلاء، أصبغ الأرزة بالأبيض على العلم اللبناني لأكتب مكانها كلمة فلسطين. لهؤلاء، أقطف كل ورود لبنان لأضعها على أضرحة ضحايا صبرا وشاتيلا وضحايا حرب المخيمات. لهؤلاء، أسرق الطائرات ليتعلّم أطفال فلسطين قيادة عربات العودة الحتميّة. لهؤلاء، أنتزع الطعام من أفواه الأثرياء لأسدّ جوع أطفالهم. لهؤلاء، أستولي على محطات النازيّة اللبنانيّة وأكرّس برامجها من أجل الترويج للثورة الفلسطينيّة. لهؤلاء، أستولي على عربات «الهامفي» المُستعملة التي يتلقّاها الجيش اللبناني من الولايات المتحدة للدفاع عن لبنان بوجه إسرائيل ـــــ والعربات تلك تمثّل صلب الاستراتيجيا الدفاعيّة لكتلة «الأمير مقرن أولاً» ـــــ وأستعملها لاصطحاب أطفال المخيمات في نزهات في كل لبنان. لهؤلاء، أكسر حجارة بعلبك لأدعّم بها ملاجئ المخيمات الفلسطينيّة لتقيهم قصف الأعداء (والأصدقاء). لهؤلاء، أجعل من قمم صنّين منتجعاً صيفيّاً لهم لتقيهم قيظ الصيف. لهؤلاء، أجعل السخرية من ترّهات سعيد عقل رياضة يوميّة مفروضة في كل المدارس.
أما لو عاد «الرجل الخطير»، فهو حتماً سينال صوتي وحنجرتي وسأزيّن بنفسي تمثالاً مرمريّاً له ـــــ وهو أفضل لبناني، من دون أن يكون لبنانيّاً.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)