بابل ــ كريم القاسميإنه اليوم الأخير في الجامعة. فرحة الطلاب العراقيين بالتخرج هذه السنة شابها قلق عميق من المستقبل المجهول الذي ينتظرهم، عبروا عنه بأسلوب ساخر. فلا تعيين في دوائر الدولة ولا فرص عمل في القطاع الخاص. وحده رصيف البطالة يلوح لهم في بلد لا يزال يحتل مرتبة ثاني دولة نفطية في العالم.
كالمعتاد، ارتدى طلبة جامعة بابل، إحدى كبريات الجامعات العراقية، أزياء مميزة وغريبة في حفلة تخرجهم. ثياب تجسّد تاريخ العراق من عصور ما قبل التاريخ، مروراً بالفرسان العرب وفلاحي القرن السابع عشر، وصولاً إلى العصر الحاضر الذي سمح بإدخال بعض تقليعات الحضارة الغربية. لكن اللافت، كانت الأدوار الساخرة التي جسدها المتخرجون تعبيراً عن شعورهم بالإحباط من انعدام فرص العمل.
في كلية التربية رفع الطلاب، والطالبات طبعاً، صوراً كبيرة تتنبأ بمستقبلهم. طلبة قسم الفيزياء اختاروا ما يعتقدونه عملاً يقترب من اختصاصهم: عمال تنظيف في الشوارع وعمال بناء، أما زميلاتهن فاخترن عمل الحفافة (إزالة الشعر بالخيط).
بسخرية، يعلق أحد المخرجين، أحمد كاظم: «أعتقد أن العمل منظف شوارع يفيد الفيزيائيين، وأنا أنصح كل الزملاء أن يبدأوا حياتهم مثلنا، منظفي شوارع حيث سنكتشف العناصر الطبيعية، كما هي ونجري تجاربنا الفيزيائية بهدوء، قد نفيد العالم باكتشافات جديدة، وربما تعمم بعدها تجربتنا في الخارج».
أما زميلته، (س. ع) فاختارت عملاً آخر: «حفافة»، تقول. «كونها مهنة لا تتطلب أي رأس مال. كل ما أحتاجه خيط أزيل به الشعر من وجوه السيدات، وبذلك سأطبق عملياً كل ما ملأت به رأسي من أرقام ومعادلات فيزيائية»، متسائلة «هل درست الفيزياء لأربع سنوات حتى أكتشف أن لا فرصة للعمل في اختصاصي ولا في أي عمل آخر؟ لو كنت ابنة أحد المسؤلين فهل كنت سأبقى بلا عمل؟».
زميلتها (ر. ج) أكدت أن المستقبل لا يعني للفتاة العراقية التي تنهي دراستها الجامعية سوى أمرين: «إما عانس في بيت أبيها، أو يحالفها الحظ وتخطف عريساً، لتمضي حياتها في بيت الزوجية وتربية الأطفال، أما العمل فمجرد التفكير فيه يثير الحزن والأسى».
آباء وأمهات الطلبة المتخرجين لم تكتمل فرحتهم أيضاً. أحدهم، صالح، يشعر بالندم لأنه رفض السماح لابنه بترك الجامعة والالتحاق بالجيش أو الشرطة، «فالشهادة الجامعية لن تعني أكثر من ورقة ستظل حبيسة خزانة الكتب أو الملابس»، بحسب الأب الذي أكد أن دخول الجيش أو الشرطة صار صعباً جداً بعد اشتداد المنافسة بين الشباب للحصول على فرصة عمل تؤمن دخلاً جيداً. انتهت حفلة التخرج ومعها انتهت رحلة 16 عاماً على مقاعد الدراسة، وبات على الشباب أن أن يبدأوا بالعمل لتحقيق أحلامهم، إلا أن رصيف البطالة ما زال يلقي بظلال من القلق على مستقبلهم. «لقد طوينا صفحة الدرس والمدرسة ونريد أن نفتح صفحة العمل، ولكن على ماذا سنفتحها؟»، يقول أحد المتخرجين.


فرحة مذيّلة بالمرارة

في كلية الفنون الجميلة التي تقع وسط مدينة بابل، يتكرّر المشهد نفسه. فهنا أيضاً، نشوة الطلاب بانتهاء سنوات التحصيل الجامعي، وحماستهم ببداية المشوار المهني لا تكتمل برمي القبعات في الهواء أثناء حفل التخرج. هنا أيضاً، السخرية هي سلاح الدفاع الأول والأخير. عمار فارس، متخرج من قسم المسرح، جسد دور متسول ودار خلال الحفل يستجدي وظيفة «فرصة عمل، لله يا محسنين، وظيفة صغيرة تمنع بلاوي كبيرة». يؤكد عمار، الذي تحدث عن ظروف صعبة عاناها لإكمال دراسته «أن التعيين في دوائر الدولة يخضع للمحاصصات الحزبية، إضافة إلى المحسوبية، ولا عمل في المسرح يمكن أن يدر دخلاً أعيش منه، لذا سأنسى كل ما درسته وأبدأ البحث عن أي عمل أعيل منه عائلتي التي تنتظر مني الكثير». زميله قاسم، الذي أبدى خوفه من أنه حتماً سيحرم من المسرح، حبه الأول كما أسماه، أدى دور بائع عصير (التمر هند)، وهو الدور الذي كان قد أداه بنجاح في آخر عرض مسرحي له في الكلية.