أكثر من ثلاثة أشهر مرّت على قرار نقابة الصيادلة في لبنان التشدّد في تطبيق عدد من مواد قانون مزاولة المهنة من دون أن تنخفض حدة الاعتراضات عليه من جانب المواطنين وعدد من الصيادلة على حدّ سواء فما هي خلفية هذا القرار
مهى زراقط
يضع الصيدليّ الأدوية في الكيس ويسلّمه للسيدة الأربعينيّة. تفتح الأخيرة حقيبتها وتُخرج ما فيها من أوراق مالية وتروح تعدّها بقلق واضح فيما يُلهي الصيدلي حسن ش. نفسه بالعمل، وخصوصاً بعدما اكتشف أن المبلغ الذي في حوزة الزبونة لا يتجاوز الـ60 ألف ليرة. تسأله السيدة بخجل: «ما فيك تخصم من السعر؟ ناقص 2500 بس». لا يجيب. فهي باتت تعرف قرار منعه من إجراء خفوضات على سعر الدواء، رغم ذلك تعود وتسأل: «كلّن 2500، ما إنت بتعرف وضعنا. والله مجمعة هالمصريّات بالزور من مصروف البيت؟».
يقول لها إنه كان يتمنّى مساعدتها لكن النقابة متشدّدة في المراقبة. يطول النقاش بينهما، هو يحاول أن يبرّر القرار وهي تقول بصوت يرتفع أكثر فأكثر: «مين اخترع هالقرارات؟ مين هوّي هيدا النقيب؟ شو مش عايش بلبنان وشايف العالم كيف عايشه؟». لكن، رغم كل هذه «الثورة»، ينتهي الأمر بالسيدة إلى وضع أحد الأدوية التي طلبتها خارج الكيس. الخيار لم يكن صعباً: «أنا فيني اتحمّل بلا دوا، ابني ما فيه» تقول.
يكاد هذا الموقف يكون يومياً في الصيدليات اللبنانية التي تشهد منذ أكثر من ثلاثة أشهر حالات استياء عام يعبّر عنها المواطنون الراغبون في الحصول على خفوضات على أسعار الدواء، أو الصيادلة أنفسهم الذين حُرم بعضهم امتيازات خاصة. أبرز هذه الامتيازات منع خدمة التوصيل إلى المنازل (delivery)، إضافةً إلى منع بيع الدواء لشركات التأمين بعدما قرّرت النقابة سحب الدواء من بوليصة التأمين.
تشرح نوال، موظفة في القطاع الخاص، أن أدوية والدتها تكلّف 400 ألف ليرة شهرياً، كانت شركة التأمين تدفعها، أما اليوم، فباتت هي مجبرة على دفعها وانتظار الضمان ليسدّدها لها. أما بالنسبة إلى الصيدليات المتعاقدة مع شركات التأمين، فهي خسرت مدخولاً شهرياً ثابتاً. لينا خ. مثلاً كانت تبيع إحدى شركات التأمين بقيمة 10 ملايين ليرة شهرياً، بربح شهري قيمته مليون ليرة (أي إنها تستفيد من هامش ربح نسبته 10% فقط لا 22.5% كما ينص القانون). هي تعترف بأن هذا القرار «جيد مبدئياً، لكنه كان يحتاج إلى آلية تنفيذ مختلفة. ربما كان الأفضل أن يطبّق تدريجياً». يوافق مازن أ. على رأي زميلته: «تطبيق القانون مفيد للمهنة ويعيد إليها اعتبارها، لكن الوضع الاجتماعي والاقتصادي السائد حالياً لا يسمح بالتشدّد». علماً بأن لينا ومازن هما من أصحاب الصيدليات المتواضعة، أي إنهما مستفيدان أكثر من غيرهما من قرار التشدد في ضبط الأسعار «كنا نضطر إلى خفض سعر الدواء للزبائن بسبب إجراء صيدليات أكبر منا خفوضات أكبر على قاعدة بِعْ أكثر بربح أقلّ».
هذا ما يؤكده حسن، الذي شعر بتأنيب الضمير لخروج السيدة من دون دوائها: «أنا أعرف أن وضع هذه السيدة صعب فعلاً وكنت أخفض لها السعر سابقاً، لكن بعد صدور قرار النقابة لا أستطيع المغامرة. كثيرون قد يبلّغون عني». غير أن تعاطف حسن مع زبونته، لا يمنعه من الاعتراف بسعادته بهذا القرار الذي أعاد إلى مهنته اعتبارها: «شعرت في وقت من الأوقات بأنني درست 5 سنوات لكي أتحوّل بائعاً في دكان». توافق جمانة، صاحبة صيدلية في بيروت: «لأول مرة منذ افتتحت صيدليتي أشعر بأنني لست مجرد بائعة. وصل بنا الأمر إلى المساومة مع الزبائن على 500 أو 250 ليرة. كان على النقابة أن تبادر إلى هذه الخطوة منذ زمن». جمانة سعيدة أكثر بقرار منع توصيل الأدوية إلى الزبائن (delivery): «الذي جعل الصيدليات الكبرى تسيطر على السوق»، رافضةً حجة عدم قدرة بعض الزبائن على الوصول إلى الصيدلية: «إذا كان جاري عجوزاً ولا يستطيع المجيء إلى الصيدلية فأنا أوصل إليه الدواء بنفسي إلى البيت. لكن خلفية هذا القرار أبعد من إيصال الدواء إلى مريض غير قادر على ذلك».
الإجماع على القرارات، يخف لدى الوصول إلى شركات التأمين، حيث نكتشف أن محدّثينا كانوا يرغبون في التعاقد مع أكبر عدد من شركات التأمين «حتى لو كانت هذه الشركات تأخذ نسبة كبيرة من أرباحنا، فهي تؤمّن لنا الزبائن وتشتري لهم أدوية مرتفعة الثمن». تبدي لينا استياءها: «كيف يمنعوننا من بيع الدواء لشركات التأمين، ما هنّي ماسكين 50% من البلد».
لا يبدو نقيب الصيادلة صالح دبيبو مفاجَأً بردود الفعل على قراره، لكنه يضحك لدى الإشارة إلى أن أكثر الاعتراضات طالت التوصيل المجاني لا عدم خفض الأسعار «حتى السياسيّون الذين اتصلوا بي انزعجوا من منع الدليفري» يقول مبتسماً. دبيبو يحرص على التوضيح أن النقابة لم تتّخذ عدة قرارات كما يشاع، بل قراراً واحداً «هو التشدّد في تطبيق قانون مزاولة المهنة بعدما تحولت الأخيرة إلى التجارة بشكل فاضح». يشير إلى مجموعة من علب الأدوية المزوّرة كانت موجودة على مكتبه، ويقول إنها مصادرة من إحدى صيدليات بيروت «وجود هذه الأدوية في الصيدليات هو ما يسمح بالمضاربات وخفض سعر الدواء».
دبيبو يؤكد أن القرار الذي اتخذته النقابة هدفه الأول حماية المواطن الذي يجب أن يحصل على دواء مأمون النتائج «لكن المضاربات في الأسعار ووجود الدواء خارج الصيدلية من خلال ما يسمّى التوصيل المجاني، لا يتيحان الوصول إلى هذه النتيجة».
ويوضح أن الحسومات التي كان الصيادلة يجرونها ليست إلا «تنازلاً من جانب الصيدلي عن حصته من أرباحه، وقد أدى هذا الموضوع إلى زيادة بعض الانحرافات في الممارسة سمحت بوجود أدوية مزوّرة وفاسدة. ثانياً جعلت المواطن في رحلة بحث عن السعر الأفضل، وصار الصيدلي يتعرض لإهانات يومية نتيجة فروق بسيطة في السعر بين صيدلية وأخرى». لافتاً إلى أن هذا القرار اتخذ بعد ارتفاع صرخة الصيادلة، الذين التزموا بنسبة 70% بالقرار من دون أي عناء، مشيراً إلى إمكان نقاش نسبة الـ22.5% «فهذا أمر لا نحدّده نحن».
أما بالنسبة إلى التوصيل المجاني، فيلفت إلى أنها ظاهرة تنفرد بها بيروت، عن كل دول العالم. «صحيح أنها مريحة للبعض، لكنهم سيغيّرون رأيهم عندما يعرفون حجم خطورتها». في رأيه «هناك تبسيط للموضوع عندما نحكي عن جار مريض يعرفه الصيدلي، بالتأكيد سيجد الأخير طريقة ليوصله إليه، لكن التساهل في هذا الأمر سبّب انتهاكات خطيرة أدت إلى التجارة بالأدوية الفاسدة، وقد اتخذنا إجراءات عديدة في هذا الإطار». وعن شركات التأمين يوضح دبيبو أن هذه الشركات «تقوم بدور مندوب الضمان. عوضاً عن أن يشتري المرضى أدويتهم وينتظروا أموالهم من الضمان، تولّت الشركات إدارة هذا الموضوع واختارت صيدليات معيّنة تعاقدت معها بعدما قاسمتها أرباحها. لماذا تأخذ هذه الشركة 13% من الصيدلي؟ القانون يمنع التعاقدات الفردية لأنها تجرّ الصيدلية إلى التجارة، وتوجّه المرضى إلى صيدليات معيّنة. لا نقبل أن يحصل استفراد للصيدليات». معتبراً أن المعترضين على هذا القرار هم المستفيدون من حصرية البيع للشركات.


الجينيريك

يوافق صالح دبيبو على شكاوى الناس من ارتفاع سعر الدواء في لبنان نسبةً إلى مدخولهم، ولا ينفي مسؤولية النقابة عن إيجاد حلول مثل اقتراح بيع الأدوية تحت الاسم العلمي (جينيريك). وفي هذا الإطار يعلن مشروع قانون ناقشته لجنة الصحة النيابية، ويرمي إلى تعديل المادتين 46 و47 من قانون مزاولة مهنة الصيادلة، بحيث يصبح من حق الصيدلي أن يصرف لحامل الوصفة الطبية دواء «جينيريك» على أن يكون سعره أقل من سعر الدواء الأصلي، وضمن شروط تحافظ على المواد الداخلة في تركيبة الأخير، وأن يوافق المريض على الاستبدال، وأن يسمح الطبيب للصيدلي باستبداله، ويذكر ذلك على الوصفة الطبية، وأن يكون الدواء البديل مشمولاً في لائحة الأدوية البديلة التي تعتمدها وزارة الصحة العامة. كما يشير إلى اقتراح آخر يتعلق بأدوية الأمراض المستعصية: «توصّلنا مع الضمان الاجتماعي إلى اقتراح أن تتولّى الصيدليات توزيع هذه الأدوية بأسعار لا تتجاوز الـ50 ألف ليرة، بعد أن يشتريها الضمان من الوكلاء بمناقصات خاصة».