الإصابات العديدة بفيروس إنفلونزا الخنازير، ومن قبله فيروس إنفلونزا الطيور، إضافة إلى أمراض تصيب الجهاز التنفسي، تزيد من أهمية الأبحاث بشأن هذا الجهاز، أخيراً سلّط باحثون أميركيون الضوء على اكتشافات جديدة متعلقة بمرض التليّف الكيسي، ودور الحديد في قيام ومناعة «مستعمرات البكتيريا»

غادة دندش
أمل جديد للمصابين بالتليّف الكيسي يلوح في الأفق في المستقبل القريب. فقد نشرت مجلة «ساينس دايلي» أخيراً خبراً مفاده أن الباحثين في «مركز دارتموث الطبّي»، توصّلوا إلى آلية تسمح لهم، على المستوى المخبري، بمحاربة الالتهابات الرئوية التي تصيب مرضى التليّف الكيسي Cystic Fibrosis. هذه الحالات لا تزال مستعصية على العلاجات المختلفة بالمضادات الحيوية، وذلك بسبب قدرتها على بناء «مستعمرات» مقاومة لهذه الأخيرة داخل الرئة والمجاري التنفسيّة. ما قام به فريق الباحثين هو مزج المضادات الحيوية المعتمدة مع أدوية قادرة على حرمان البكتيريا الحديدَ Iron الحيوي لنموّها، وقد راقبوا النتيجة المذهلة التي توصلوا إليها في ظروف مخبرية، والتي تجلّت في ارتفاع قدرة المضادات الحيوية على قتل البكتيريا في حالة حرمان هذه الأخيرة الحديد. الدكتورة صوفي مورو ماركي الباحثة في المركز، تقول: «إن ما قمنا به يفتح الباب أمام احتمال معالجة مرضى التليّف الكيسي في المستقبل». التليّف الكيسي مرض وراثي ينتقل من الأهل الذين يحملون خللاً جينياً إلى الأطفال، لكنَّ خطر انتقاله يبلغ نسبة 1\4 ، وهذا المرض غير قابل للعلاج حتى يومنا هذا. التليّف الكيسي يصيب الغدد الخارجية الإفراز، ويؤثر تأثيراً أساسياً في الجهاز التنفسي والجهاز المعوي، وقد يسبب العقم لدى الرجال (وذلك بنسبة تفوق الـ 90 في المئة)، وهو من أكثر الأمراض الوراثية المميتة شيوعاً.
يورّث المرض من الأهل إلى الأبناء في حالة صفة Recessive ولا تزال الأسباب الأساسية للخلل الذي يسبّبه مجهولة. في معظم الحالات يعاني المصابون إفرازات غير طبيعية في المواد المخاطية في مختلف أنحاء الجسم، وذلك رغم أن فيزيولجية الغدد المسؤولة عن إفرازها تبقى طبيعية. على مستوى الجهاز التنفسي توحي العلامات أن الرئتين تكونان طبيعيتين عند الولادة، وتبدأ الآفة على الأرجح بانسداد منتشر في الطرق الهوائية الصغيرة بسبب الإفرازات المخاطية الثخينة. هذا الأمر يسبّب التهاب القصيبات الهوائية وبالتالي انسداداً مخاطياً قيحياً لمجاري التنفّس. لقد حدّد الباحثون أن البكتيريا الأكثر شيوعاً لدى مرضى التليّف الكيسي هي Pseudomonas aeruginosa، وهي تتكاثر داخل الرئة تكاثراً سريعاً وتكوّن «مستعمرات» مقاومة للمضادات الحيوية antibiotics المعتمدة في علاجها. يساعدها على الانتشار الظروف المواتية لدى مرضى التليّف الكيسي، إذ إن الرئتين تكونان عادة ممتلئتين بالإفرازات المخاطية التي تنمو هذه المستعمرات داخلها.
أظهرت التجارب العينية التي قام بها فريق الدكتور ماركي أن كمّية المضادات الحيوية الضرورية للقضاء على المستعمرات، يفوق بعشر مرّات الكمّية التي تستطيع الرئة تحمّلها لدى المصاب. لذا يقتصر دور أكبر جرعة من أحدث مضاد حيوي موجود حتى اليوم لعلاج هذه الحالات على ضبط نمو المستعمرات البكتيرية، لا القضاء على المرض.
العام الماضي لاحظ الباحثون في مختبرات الميكروبيالوجيا، التابعة للمركز الطبّي في دارتموث، أن الخلل الجيني المسبّب للتليّف الكيسي يسهم في رفع نسبة خلايا المجاري التنفسية لإفراز الحديد، كما اكتشفوا أن البكتيريا تعتمد اعتماداً أساسياً على هذا الحديد بالذات لبناء «مستعمراتها» المقاومة للمضادات الحيوية. قام الباحثون إذاً بتطبيق هذا الاكتشاف في المجال السريري، حيث استخدموا مادتين رخّصتهما الـ FDA لعلاج التسمّم بالحديد، وأثبتوا أن هاتين المادتين قادرتان على رفع قدرة المضاد الحيوي وبالتحديد الـ Tobramycine على القضاء على التهاب البسودومونا. تقول الدكتورة ماكي إن أهمية البحث أنه كان الأول في إظهار حقيقتين كانتا مجهولتين حتى اليوم. الحقيقة الأولى يمكن تلخيصها في الحاجة الحيوية إلى الحديد في قيام ومناعة «مستعمرات البكتيريا»، وتضيف ماكي «هذه الحقيقة دفعتنا إلى التفكير في استخدام المواد المحبطة للحديد في الرئة». وتشدد على أن الحقيقة الثانية هي «أننا أكّدنا أن كمّية المضادات الحيوية الضرورية لمحاولة القضاء على «مستعمرات» البكتريا تفوق بكثير الجرعات التي يمكننا أن نعطيها للمريض، وهذا ما دفعنا إلى إدراك أن هذا الخطّ العلاجي لن يودي إلى أي مكان وإلى ضرورة اعتماد مقاربة جديدة».
هدف الباحثين الآن هو إيجاد الطريقة القابلة للتطبيق على البشر من أجل إيصال المواد المانعة لوصول الحديد إلى البكتيريا إلى الرئة. المضادات الحيوية المستخدمة تصل عبر الاستنشاق، وفي الظروف المخبرية جرى إيصال المواد المحبطة للحديد عبر الدم. سوف يقوم الفريق الباحث بالتنسيق مع عيادات مرضى التليّف الكيسي في دارتموث في مركز هيتشكوك الطبّي بتطوير برامج سريرية لتجربة هذا الأسلوب العلاجي الجديد.