أعتقد أن الكثيرين ممّن تحمّسوا لتجربة «كفاية» وفورة آمال التغيير، وأنا منهم، حتى لو لم يكونوا يطمحون إلا إلى زحزحة الأسوار قليلاً للتمتع بمساحة أكبر من البراح، قد خرجوا من التجربة بقناعة أن «الاحتجاج العام» ليس أكثر من فعل رمزيّ، له دوره في لحظات سياسية معينة. لكنه، إما أن يتحول إلى فعل حقيقي في ساحة السياسة، في حال وجود قوة مناسبة وخطة محددة لهدف محدد يمكن الرهان عليه بهامش معقول من المغامرة. وهو ما يحدث في الاحتجاجات المطلبية للعمال والمهنيين والطلبة؛ وإما أن يكون الاحتجاج العام جزءاً من سعي تيار أو قوة تعبّر عن مصالح فئات متنوعة وتطالب ببرنامج سياسي واجتماعي، لم يُصَغ كديباجة حلوة مثل «إعلان القاهرة»، يكتبها ويلقيها أحدهم مدفوعاً بقريحته السياسية، بل يعبّر عن اتفاق قوى وتلاقيها بالمعنى الحقيقي، ويكون الاحتجاج إحدى وسائل ذاك التيار وبدائله، وأداة للتعبير والتلويح بإمكانات هذه القوة، ورمزاً لقدرتها على الحشد، أي مجازاً لسلطتها التي تتحدى سلطة أخرى.بخلاف هاتين الحالين، فإن الاحتجاج الذي لا يتّكئ على شيء، ولا يجمع إلا أعداداً ضئيلة، يظل رمزاً للقوة المحدودة التي تعلن الرغبة في المقاومة وتحدي السلطة، وتستعين لذلك بكاميرات الإعلام للظهور في مواجهة السلطة، رغم الفرق الكبير في ميزان القوى. ذلك مفهوم ومشروع وأداة لكل قوة صاعدة. ولكن الإكثار من «الاحتجاج العام» والاقتصار عليه والنفخ فيه من خلال وصفه بـ«إضراب عام لشعب مصر»، يتحول إلى إدمان للفعل الرمزي، وانتظار لتحوله إلى فعل واقعي عن طريق صحوة النخوة، وتفجّر الغضب في أوردة المواطنين بفعل الطاقة الشعرية للمجاز السياسي، وبفضل صدق وإخلاص الدعوات التي تدعوهم إلى التحرك اتباعاً لقوى يسمعون عنها في أحسن الأحوال.
قد يكون دالّاً أن يتفق طرفا اليسار المصري المختلفين عادة، الاشتراكيون الثوريون واليسار الديموقراطي، على قدر من التحفظ تجاه التوقعات الكبيرة والاهتمام المبالغ فيه بإضراب 6 إبريل. الصحافة تقف موقفها المعتاد بالبحث عن أي إثارة وأية حالة ولو مختلقة من الاستقطاب السياسي، وتحتفي حفاوة إضافية بـ«شباب 6 إبريل» أو «أشباح الإنترنت» و«تنظيم الفايس بوك»، باعتبارهم «تقليعة»، وأيضاً لأنهم يهاجمون السلطة والمعارضة معاً، والصحافة «المستقلة» تحب أداء دور «الطرف الثالث» المستقل. وعندما يتحول السياسيون وتياراتهم بفعل «إدمان الرمزية» إلى إعلاميين في ساحة السياسة، فإن الصحافة ليس أمامها إلا أن تغطي هذا الفعل الرمزي بفائض كبير من البلاغة للاحتفاء بالرمزي ودلالاته. فتنتفخ المانشيتات قبل الحدث وتنزوي خجلاً بعده أو تستمر في عنادها تعاطفاً أو كرهاً في الاعتراف بالفشل في مواجهة أبواق السلطة.
لم يعد غريباً أن تعلن الأطراف كافة الانتصار منذ الحروب الأخيرة في المنطقة. فحتى السياسة الدولية والعلاقة مع إسرائيل تملأهما حمّى «الموقف الرمزي» و«التحسس من أي شبهة تطبيع أو موالاة». مبروك إذن للجميع كل الانتصارات، باستثناء «الانهزاميين» الذين لا يستسلمون للحماسة أكثر من اللازم، ويعلمون أن السياسة هي في مكان آخر عليهم أن يحرثوه جيداً وطويلاً قبل أن يفكّروا في انتظار أي ثمرة حقيقية.

عمرو عزّت
http://mabadali.blogspot.com