strong>جاد نصر اللهأن تجلس في مكتب المعمار رهيف فياض، كأن تنتقل عبر الزمن عقوداً إلى الوراء. في فضاء الغرفة الصغيرة التي ما زالت تحتفظ بأثاث الستينيات، تحتشد كلّ نظريات العمارة. لوكوربوزيه حاضر في أبعاد أعِدَّت استناداً إلى المقياس الإنساني. لا شيء هنا يزيد على حاجته الوظيفيّة في حراكه اليومي، ولا “فخفخة” زائفة تطغى بحضورها على القيمة الإنسانية للعنصر البشري الموجود في المكان. حين تسمع فياض يسترسل في الكلام عن الالتصاق الوثيق للعمارة بحاجات الناس وهمومهم اليومية، تدرك أنّ هندسته للفضاء فعل مقصود، ولم تأت نتيجة «فانتازيا» تصميميّة.
يسبغ على «مهنة النبلاء»، كما سُمِّيت في عصور بعيدة، معنىً جديداً فيه الكثير من النبل الأخلاقي. من قيادته لمشروع إعادة إعمار ضاحية بيروت الجنوبية حالياً، إلى معارضته اليومية لجريمة إعادة إعمار الوسط التجاري، مروراً بمعركته الأخيرة في وجه إنشاء «دار الثقافة والفنون في بيروت»، وعمارات الطراز المعولم الزاحفة بأشكالها الستاندراتية، يستعرض فيّاض رؤيته للعمارة في ارتباطها بمكانها ومحيطها وزمانها فيؤنسنها: «على النسيج المديني أن يحافظ على الذاكرة الجماعية، وكلّ كلام عن الجمال والبشاعة هو خرافة».
ولد المعمار اللبناني قبل سبعة عقود في بترومين شمال لبنان، في بيت مسيّس امتلأ بالكتب، وكان النقاش المعرفي فيه زاداً يومياً. هو ابن المربّي جبرائيل فيّاض الذي أسَّس مع علي شلق وحسيب غالب وغيرهما «جمعية أهل القلم» في طرابلس.
قبل أن ينتسب عام 1954 إلى «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ALBA)، كان حلم الصبا أن يغدوَ مهندساً، ويكتب في آن معاً. بعد انتهاء مرحلة التعليم الثانوية، ساقه والده في زيارة إلى مكتب صديق العائلة في شارع المعرض، المهندس أنطون تابت، طالباً النصح، فما كان من مؤسس مجلة «الطريق»، إلّا أن أقنعه بتعلّم العمارة في الـ ALBA. حينها فقط، بدأ فياض بالتمييز بين المهندس والمعمار وطبيعة اختلاف الوظيفتين في المجتمع. فالثاني يرتبط بهموم الناس ويلتزم مشاكلهم الحياتية، «عندما تتخصص لتكون معماراً تفعل ذلك لتكون أقرب إلى القضايا المجتمعية»، يشرح المعمار المتمرّس.
رافق سنين دراسته الجامعيّة هوس بالقراءة لم يتوقف حتّى اليوم. الشاب الذي التهم جميع مطبوعات «الحزب الشيوعي الفرنسي» لأنّها كانت طليعية في كل ما يتعلّق بالفكر والثقافة، ما زال حتى اليوم يقرأ ثلاث صحف محليّة يومياً إضافة إلى الصحف الفرنسية. يغلق الباب في عطلة نهاية الأسبوع على نفسه. من ظهر السبت حتّى الاثنين صباحاً، لا يطأ خارج عتبة بيته، ويتفرّغ للتمحيص في الصحف والكتب حتى تتعب بين يديه، «أقرأ وأعيد القراءة». في سجلّه، مقالات صحافيّة ودراسات منشورة ومؤلفات كثيرة، كـ«العمارة الغانية والإعمار الموجع» («الفارابي» ـــــ 1999) و«العمران الذاكرة العمران الوهم» («الفارابي» ـــــ 2001). كتاباه نوع نادر من الأعمال في اللغة العربية، يتناولان إعادة إعمار وسط بيروت التجاري خصوصاً، وهو الموضوع الذي يولّد لدى رهيف فياض ألماً حقيقياً ونزفاً يومياً مستمراً. تختنق في درج مكتبه اليوم مسودتا كتابين ينتظران النشر: «من العمارة إلى المدينة» و«خلاصات» الذي ينبئه قلبه بأنّه سيكون آخر ما يكتب...
بعد نيله دبلوم الدراسات العليا، بدأت رحلته الطويلة الشائكة. تنقّل بين محترفات واثق أديب وجورج الريّس وموريس هنديّة وكاظم كنعان والبولوني شارل شاير، قبل أن تبدأ مرحلة الاستقرار في محترف أنطون تابت عام 1961. بعد ثلاثة أعوام، توفي تابت فتسلم فياض المحترف في العام نفسه الذي بدأ فيه جاد أنطون تابت سنته الدراسية الأولى في العمارة. تتلمذ الأخير في مكتب والده على يد فياض وبدأت بين الاثنين مسيرة تطورت إلى الشراكة، ليبنيا معاً «فندق هيلتون» والمبنى الثاني من «فندق سان جورج» و«مبنى المركز الثقافي الروسي» في فردان، إضافةً إلى الكثير من المشاريع الأخرى في إطار «الدراسات المعمارية والمدينية» و«المؤسسة العربيّة للتصميم والدراسات». استمرّت الشراكة حتّى انتقال جاد للعيش في باريس عام 1986 وتابع فيّاض مشاريعه وحيداً.
بعد تجربة مهمّة في اليمن، توسّعت دائرة أعماله، هو الذي كان أوّل معمار يُدخل إلى العراق نظام التصنيع الثقيل. بنى مسجد الدولة في جيبوتي، ونجح في تعديل العمارة الداخليّة لأحد البيوت الباريسية التراثيّة المصنّفة، بما يناسب طريقة عيش عائلة سعودية. تنوّعت ممارسته في التصميم والإشراف في لبنان والسعودية ومصر والمغرب ولندن وجنيف وتركمانستان وقطر. أمّا في روسيا، فقد شيّد المبنى الرئيسي لأوّل بنك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
أسماء كثيرة رافقت حياته المهنيّة. تعرف إلى عاصم سلام في معركة ترشّحه لمنصب نقيب المهندسين عام 1996، فكان إلى جانب آخرين السند الفكري له في النقابة. منذ ذلك اليوم، يترافق الاثنان في العديد من المهمّات، «عاصم رئيساً وأنا نائباً للرئيس». بعد انتخابات النقابة، اتّصل عاصم سلام طالباً عونه في «هيئة المعماريين العرب» التي كانت في طور التأسيس. انخرط فيّاض مستجيباً، وترأس الهيئة في دورتها الرابعة حتى 2005. كانت فترة رئاسته للهيئة هي الأطول، إذ طلب منه الأعضاء الاستمرار في ممارسة مسؤولياته سنة إضافية لعدم قدرتهم على انتخاب رئيس جديد.
يقطع حديثنا رنين الهاتف. اتّصال من صديقه رفعة الجادرجي، المنظّر العراقي في بنيوية العمارة، وصاحب رسم العلم العراقي الجديد في زمن الاحتلال الأميركي. يطول الحديث بين الاثنين على الهاتف، مقرّرات وكرّاسات للدراسة ومشاريع كثيرة. نتذكّر فيّاض، في إحدى ندواته الأكاديمية في «الجامعة اللبنانية»، قبل ساعات على بدء الغزو الأميركي للعراق. استهلّ الندوة بكلمة حادّة حذَّر فيها من عراق كنعان مكية وأحمد الجلبي، ودمعت عيناه حين هتف أخيراً: «الموت لأميركا، الموت لأميركا» مثل شاب متحمس في مقتبل العمر. نطرح سؤالاً عن علاقته مع الجادرجي، فيجيب بأنّها محصورة بالفن والعمارة، ويتجنّب مجادلته في خياراته السياسية. «أما إن وجد أشخاص آخرون معنا وفُتح النقاش، فإني لا أوفّر جهداً في مهاجمته».
يصر على تسمية الضاحية بـ«جنوب بيروت». بعيد حرب تموز، وتحديداً في 20 أيلول (سبتمبر) 2006 نشر في «الأخبار» رؤيته لإعادة الإعمار سائلاً: «هل نعيد إعمار المدينة، أم نعمّر ما دمرته الحرب فيها؟».
قرأ المعنيون في «حزب الله» مقالته، فزاروه في مكتبه طالبين منه تسمية مجموعة أشخاص بغرض تأليف لجنة معماريين تتولّى إعادة إعمار الضاحية. لبّى طلبهم فبادلوه بالمثل. مرّت أيام قليلة حتى أبلغوه أنّ كل شيء جاهز، وما عليه إلا تولي قيادة المركب. يرى رهيف فيّاض أنّها المعركة التي نجح فيها أكثر من أي شيء آخر: «عليك ألا تخلّ بالذاكرة تحت أي مسمّى، وخصوصاً ذريعة التحديث وتحسين مستوى عيش الناس». يتشكك فياض بكلّ الكلام عن تحديث الضاحية وإنزال صرعات العمارة الحديثة عليه، ويصف هذه النظريات بالفوقية، «نحن نبني نسيجاً اجتماعياً لا نسيجاً مدينياً».


5 تواريخ

1936
الولادة في بترومين (شمال لبنان)

1963
دبلوم في الهندسة المعمارية من ALBA «الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة»

1964
تسلّم مكتب المعمار أنطون تابت بعد رحيله

2001
انتخب رئيساً لـ«هيئة المعماريين العرب»

2009
مطالعة نقديّة موسّعة في «السفير» ضدّ المشروع الفائز بمشروع «دار الثقافة والفنون في بيروت» ــــ يواصل الإشراف على مشروع إعمار ضاحية بيروت الجنوبية الذي انطلق عام 2007، لمحو آثار العدوان الإسرائيلي صيف 2006