جاؤوا الى برج البراجنة سنة 1950. هناك، اختار الهاربون من عصابات الاحتلال في فلسطين تلالاً رملية ليبنوا عليها مخيمهم. أبناء المنطقة سمعوا أن الضيوف لن يطيلوا البقاء، لكنهم بقوا 60 عاماً حتى أصبحوا أكثر من جيران؟
قاسم س. قاسم
«كان المشهد غريباً في البداية، فالأرض التي اعتدنا أن نلهو على تلالها الرملية سكنها أناس عرفنا أنهم طردوا من وطنهم، لكن أهلنا اخبرونا بأنهم سيعودون إليها مجدداً»، هكذا تتذكر علياء حرب، من سكان البرج، الأمس القريب. لم تتوقع علياء أن يبقى «الضيوف» ستين عاماً «مع الأيام، راقبنا الخيم العسكرية التي سكنوا تحتها تتحول إلى بنايات». تطورت العلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين مع تطور الأحداث، وتبدلت مشاعرهم مع تبدلها. بدأت علاقتهم بالحب، ثم تحول حبهم إلى احترام وتغير احترامهم لكراهية ورغبة بالانتقام. لكن الحب، عاد ليرفرف من جديد مع اندلاع الانتفاضة الأولى ثم الثانية، فتعاطف عميق بمناسبة العدوان الوحشي على غزة التي ذكّرت اللبنانيين بما عانوه في حرب تموز 2006 الماثلة في الذاكرة. أما اليوم، فواقع العلاقة توجس مما يحاك وقد يسبب، بعد اغتيال كمال مدحت، تفجيراً أمنياً في المخيمات.
إذاً في البدء كان التعاطف التام معهم «كنّا نعطيهم حتى من ملابسنا» تقول علياء. ثم تحول التعاطف الى احترام مع حضور الثورة التي انضوى تحت لوائها أبناء المنطقة، وخصوصاً، كما تقول منى الحركة، «مع ظهور الفدائيين الذين أردنا أن نكون مثلهم». لكن مع رحيل الفدائيين جاءت النقطة المفصلية: حرب المخيمات التي حوّلت الغرام المتبادل بين الطرفين إلى انتقام من تجاوزات «الثورة». ففي هذه الحرب انقسم أبناء المنطقة أنفسهم. فمنهم من ساهم «بتهريب الخبز والطعام» كما تقول منى، ومنهم من كان «شاهداً على ما يحصل فقط» كما تقول حرب. أما اليوم، وبعد مرور ستين عاماً، فكيف ينظر اللبناني إلى جاره الفلسطيني؟
أصبح مخيم برج البراجنة جزءاً من دورة الحياة العادية: الاقتصاد، الطبابة، واليد العاملة الرخيصة. في الاقتصاد، أصبح المخيم محجة للعديد من اللبنانيين المحيطين به، وتحوّل إلى مصدر أساسي للتسوق، لكون الكثير من البضائع فيه أدنى سعراً من خارجه. هكذا، اعتاد الجيران أن يقصدوه لشراء حاجياتهم بل حتى أنهم باتوا يقصدوه للطبابة أيضاً. يعترف ياسر يوسف بأنّه يدخل إلى المخيم يومياً، وذلك من أجل الدخان، لأنني أشتريه «تهريب» لكونه أرخص. أصبح ليوسف أصدقاء داخل المخيم جرّاء زيارته اليومية المتكررة للمخيم. تطورت هذه الزيارات مع الوقت حتى تعرف يوسف على جميع المحال التجارية الموجودة داخله، و«أكثر زياراتي هي لمحال أفلام الفيديو وبائعي الدخّان». وبالطبع، ليست جميع الزيارات اقتصادية فقط، فلأطباء الفلسطينيين حصتهم أيضاً من الزوار الفقراء مثل سكان المخيم.
تعبر مفيدة حاطوم المدخل الشرقي للمخيم مفرق زين الدين، وتسأل عن عيادة الدكتور عبد العزيز العلّي، فيصطحبها شاب إليه. «سمعت إنك شاطر يا حكيم وإمي مريضة». يغادر الحكيم ومفيدة، ثم يعود حيث كنا ننتظره. يشرح أنّ «المريضة كانت بحاجة لمصل فقط». وعند سؤاله عن الكلفة أجاب «عشرة آلاف ليرة، أنا ابن مخيم وبعرف أحوال الناس». إذاً كل شيء بالمخيم أرخص، المنتوجات والطبابة حتى اليد العاملة الفلسطينية. يجلس أحمد منصور أمام محل الحدادة الخاصة به، يشير إلى أحد عماله «هيدا الشاب فلسطيني بس معلّم قبضاي». يشرح منصور أنه يفضل أن «أوظف فلسطينيين لأنهم: ما بينضمنوا» يقصد أنه لا يدخلهم إلى الضمان الاجتماعي المحصور باللبنانيين. ولكن العلاقة بالمخيم تعدت النواحي التي أسلفنا ذكرها ووصلت إلى المصاهرة. لا تزال فاطمة زين الدين تذكر حبّها الأول الذي كان أستاذاً فلسطينياً في مدرسة الأونروا القريبة من منزلها، وتقول «لمّا عرفت إنو تجوّز، تجوّزت نكاية فيه»! وتضيف ضاحكةً «بس زوجي كمان فلسطيني». لن تكون فاطمة الأخيرة ممن يتزوج فلسطينيين، برغم أن اللبنانية لا يحق لها إعطاء جنسيتها لأولادها. هي مغامرة تأخذها اللبنانية على عاتقها، فأم محمد خليفة لا تمانع إذا «تقدم فلسطيني للزواج من ابنتي برغم الصعوبات التي سيعانيها الأطفال». وسبب قبولها؟ «يا إبني إلنا ستين سنة منعرفهم وعايشين معهم».
بل أكثر من ذلك. فقد ساهمت إسرائيل بالتقريب بين الجانبين من حيث لا تدري. وقد تجلى ذلك خلال حرب تموز عام 2006. حينها انتقل معظم أهل برج البراجنة إلى داخل المخيم. لأن الفلسطينيين يعرفون «معنى التهجير الذي نعيشه الآن، ونحن لسنا غرباء بعضنا عن بعض لأننا قصدنا معارفنا في المخيم»، تقول صبيحة حرب.
مرّ ستون عاماً على وجود الفلسطينيين في برج البراجنة. وتشارك الطرفان اللبناني والفلسطيني على مدى ستين عاماً أفراحهم وأتراحهم. أما كلا الطرفين فيعترفون بأن حسن الجيرة فوق كل شيء. قد يتساءل البعض: لكن ألم يكن هذا لسان حال أهالي مخيم نهر البارد؟