الحدث هو إطلاق مركبتَي الفضاء بلانك وهرشل في الرابع عشر من الشهر الجاري من قاعدة غويانا الفرنسية على متن الصاروخ Ariane 5؛ المهمة: البحث عن أصل الكون من خلال معرفة ما حدث بعد أجزاء من الثانية على وقوع الانفجار العظيم ــ سبب وجود الزمان والمكان
روني عبد النور
جرى قبل أيام إطلاق المركبتين «بلانك» و«هرشل» التابعتين لوكالة الفضاء الأوروبية (ناسا) بمشاركة مختبر الدفع النفاث التابع لها. وفيما يتعيّن على هرشل اكتشاف المراحل الأولى لولادة النجوم والمجرات في الكون على مستوى غير مسبوق من الدقة، وذلك لتحديد كيفية نشوء مجرة درب التبانة، ستعود بلانك بالزمن إلى الوراء لتجمع التفاصيل التي من شأنها توضيح الغموض الذي يلف وجود الكون.
بالعودة إلى عملية الإطلاق، انفصلت المركبة هرشل عن الصاروخ بعد 26 دقيقة على العملية وتبعتها بلانك بعد مرور دقيقتين. تجول المركبتان حالياً في مدارين مختلفين في طريقهما إلى نقطة في النظام الشمسي ـــــ الأرضي تُعرف بـ«نقطة لاغرانج»، التي تبعد عن الأرض أربعة أضعاف المسافة التي تفصل الكوكب الأزرق عن القمر، أي ما يوازي 1.5 مليون كيلومتر. وستحقق المركبتان في المراحل المقبلة من مهمتيهما دوراناً مدارياً بصورة منفصلة حول هذه النقطة. وقد أعلن الموقع الإلكتروني لناسا أن هرشل تحتاج إلى نحو شهرين قبل أن تدخل في مدارها. وبعد أربعة شهور من ذلك التاريخ، ستبدأ المركبة عملها فعلياً، وهو العمل الذي يُتوقع أن يمتد طوال ثلاث سنوات ونصف السنة. أما بالنسبة إلى بلانك، فهي ستصل إلى مدار مشابه خاص بها خلال شهرين أيضاً، حيث ستبدأ بمهمة المراقبة المنوطة بها بعد شهر من ذلك التاريخ. ومن المقرر أن تتواصل عملية المراقبة هذه مدة سنة ونصف السنة مع احتمال تمديدها إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.
وصُمّمت المركبتان، اللتان تعتمدان على الهيليوم السائل لتبريد أجهزة التحرّي فيهما على درجة حرارة تصل إلى 272 درجة مئوية تحت الصفر، بهدف التقاط الضوء الذي يستحيل على العين البشرية رؤيته. في هذا الإطار، ستقوم هرشل بتقفّي آثار الضوء الذي بقي في جزئه الأكبر غير مكتشف إلى الآن، كما ستجري قياسات دقيقة للأماكن الباردة والمظلمة التي احتضنت النجوم والمجرّات في المراحل الأولى لتكوّنها. من ناحية أخرى، ستعمل هرشل على تحرّي العناصر والجزيئات الرئيسة التي ساهمت في تكوّن النجوم، من خلال تعقّب مراحل تطوّرها من الحالة الذرّية إلى مواد قابلة لاحتضان أشكال للحياة. إحدى هذه الجزيئات ستكون المياه التي يطمح الخبراء إلى تحديد كمياتها المتوافرة في الفضاء بواسطة مجموعة من القياسات الدقيقة. علاوة على ذلك، ستقوم بلانك بتحرّي الضوء ذات الأطوال الموجية الكبيرة عبر أداء يشبه أداء كبسولة الزمن، أي مشاهدة الضوء الذي يسافر في الفضاء منذ بلايين السنين التي تشكّل عمر الكون إلى حين وصوله إلينا. ومن شأن هذا الضوء الكوني أن يزوّد العلماء بمعلومات عن الانفجار العظيم (بيغ بانغ) الذي شهد تناثر الكون إلى أجزاء عدة انطلاقاً من نقطة متناهية الصغر كانت عبارة عن الزمان والمكان في آن.
لكن ما هو هذا الإشعاع؟
إنه إشعاع الخلفية الميكروني الكوني cosmic microwave background الذي يُعتبر بمثابة بقايا الضوء الذي نجم عن الانفجار العظيم. وقد انطلق بعد حوالى 380000 سنة على نشوء الكون. في ذلك الحين، وصل الكون الآخذ في التمدّد إلى درجة حرارة منخفضة للغاية سمحت بتمازج الجزيئات (على رأسها الإلكترونات)، ما أنتج الذرات غير المشحونة وفي مقدمتها الهيدروجين. أما الفوتونات، التي كانت مبعثرة ومشتتة بسبب تأثير الإلكترونات الطليقة الحركة، فقد تمكّنت من تجميع نفسها بصورة مفاجئة ومن التخلّص من عرقلة الإلكترونات لنشاطها، مكوّنة بذلك نواة الإشعاع الكوني.



قامت أجهزة المِقراب الكاشوفي Radio telescopes بدراسة هذا الإشعاع منذ اكتشافها عام 1965. وأبرز هذه المحاولات تجلّت في مِقراب ويلكينسون التابع لناسا والذي أُطلق عام 2001. فقد حدد الأخير الفوارق الطفيفة في درجة حرارة الإشعاع والتي يعود سببها إلى عملية التضخّم التي يُعتقد أنها طرأت بعد 10-34 ثانية على حدوث الانفجار، حين تمدّدت نقطة لا يزيد حجمها على 10-20 جزء من حجم البروتون بشكل لامتناه. وستدرس بلانك هذه الفوارق بدقة قصوى تفوق بـ15 ضعفاً دقة المِقراب، حيث لا يتعدى هامش الخطأ فيها نسبة الواحد في المئة، وذلك عبر مراكمة حوالى 300 بليون قياس في غضون سنة من الآن.
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن تحديد هذه الفوارق الحرارية سيمكّن العلماء من قياس عدد من العوامل على غرار انحناء الزمان والمكان ومساهمة الطاقة والمادة المظلمة، كما المادة العادية في توزيع الكتلة والطاقة في الكون. وثمة احتمال بأن تقدّم بلانك عبر دراسة عملية التضخّم الآنفة الذكر دعماً لبعض سيناريوات نظرية الأوتار الفائقة، التي تجادل بأن كوننا ليس سوى واحد من مجموعة تتألف من 10500 كون آخر وتشكّل ما اتُّفق على تسميته متعدد الأكوان (multiverse).