في لبنان، يوم واحد في السنة للتراث، تفتح فيه المواقع الأثرية أبوابها للوافدين مجّاناً. من جبيل إلى طرابلس، فصور وبعلبك والمتحف الوطني في بيروت... زوّار بالألوف لاكتشاف تاريخ لبنان. لكن «الهجوم» يترك بصماته على المواقع

في يوم التراث الوطنيّ غصّت مدينة جبيل بطلاب المدارس والزائرين من مختلف المناطق اللّبنانيّة. فامتلأت شوارعها وسوقها القديمة بالصغار والكبار، في جوّ أشبه بكرنفال تراثي. وفي طرابلس، شرّعت القلعة أبوابها أمام طلاب المدارس، الذين دخلوا أهم معلم أثري في مدينتهم للمرة الأولى. وإذا كانت في بعلبك نسبة الحضور متدنّية مقارنةً بالسنين الماضية، ففي صور لم يدخل المواقع إلّا بعض من الطلاب.
شوقي الحايك، من بلديّة جبيل أشار إلى أنّه «خلال هذا اليوم الذي يتكرّر سنويّا تُفتح خلاله أبواب القلعة ومتحف المتحجّرات مجّانا أمام جميع اللّبنانييّن، وتستفيد منه خصوصاً إدارات المدارس والشركات السياحيّة»، مضيفاً «إنّ المواقع الأثريّة عرضة للتخريب دائماً، وفي مثل هذا اليوم يُطلب من الأساتذة المرافقين للطلاب الانتباه إليهم تفادياً لأيّ خطر قد يهدّدهم ويهدّد الآثار، والحرص على عدم إزعاج الآخرين داخل المواقع الأثريّة وفي محيطها».
أشار أحد المسؤولين في القلعة إلى أنّ عدد زائريها هذا العام تخطّى الأعوام السابقة بنسبة كبيرة، حتّى تعذّر تقديره تقديراً صحيحاً، لافتاً إلى أنّ القسم الأكبر منهم هو من خارج منطقة جبيل. ففي أرجاء الموقع التقى طلاب من مدارس بسكنتا آخرين من زغرتا، وعلى وجوههم بدت الفرحة بالزيارة. فوصفوا القلعة «بالرائعة»، وبعضهم شعر بضرورة الحفاظ على الآثار لأنّها «إرث كبير من الأجداد». أما مديرة مدرسة زغرتا الأولى الرسميّة للبنات منتورة معوّض، التي رافقت 41 طالبة، فشرحت «إننا نستغلّ هذا النهار للاستفادة من إمكان زيارة المواقع الأثريّة التي نفتخر بها. فبعد زيارة قلعة طرابلس توجّهنا إلى جبيل، لكن مع الأسف لا يوجد أدلّاء سياحيّون يشرحون عن المواقع مجّاناً للطلاب». وأكدت أن هذا الأمر «خطأ يجب على وزارة السياحة التنبّه إليه».

طرابلس: هجوم على القلعة

لا أحد يستغرب إذا علم بأن طلاب الأقضية المجاورة لمدينة طرابلس، لم يزوروا يوماً قلعتها الصليبية، ولكن قد يستغرب أن لا يكون طلاب المدينة يعرفونها رغم أنها تقع في وسط المدينة، ويمكن الوصول إليها سيراً على الأقدام من معظم مناطق طرابلس. ولكن تنظيم «يوم التراث» يمثّل حدثاً ودافعاً لمديري المدارس الذين يصطحبون تلامذتهم إلى القلعة منذ الثامنة صباحاً. ويؤكد حراس القلعة أن نسبة الحضور جيدة قياساً بالعام الماضي.
فمدرسة الفارابي الرسمية في طرابلس، التي دعت إلى القلعة أكثر من مئة طالب وطالبة راوحت أعمارهم بين السابعة والخامسة عشرة، وبسبب تغيّب الأدّلاء السياحيين، حاول أساتذة مادة التاريخ فيها التعويض عن هذا النقص بإعطاء شروح عن تاريخ القلعة والفن المعماري. أما إدارات مدارس أخرى، فحاولت التعويض عن هذا النقص طالبةً من تلامذتها «إنجاز أبحاث عن تاريخ القلعة، وأهميتها تمهيداً لهذا اليوم الطويل الذي سوف يتعرّفون خلاله إلى ما كتبوه، ويشاهدون غرفها الكبيرة وأبراجها وسجونها». فانتشر الوافدون من المناطق القريبة والبعيدة، والطلاب في أرجاء القلعة طرابلس يستكشفونها وحدهم، ويحاولون بغياب بيانات الشرح فهم استعمال كل معلَم. وهنا، تكرّر مطلبهم: «بما أن الدولة قررت إدخال الناس إلى المواقع الأثرية مجاناً في هذا اليوم الوطني، كان عليها أن تأخذ بعين الاعتبار تأمين وجود أدلّاء سياحيين يشرحون أهمية ما تبصره أعيننا».

صور: خيبتان

اليوم التراثي خيّب أمل صفاء سرور، المديرة التربوية لمدرسة إبداع لذوي الحاجات الخاصة في عيتا الشعب، التي اصطحبت مئة طفل إلى آثار صور البحرية والبرية. الخيبة الأولى وقعت عند مدخل الموقعين الأثريين، حيث لم تجد دليلاً سياحياً يستقبلها وأطفالها، أو موظفاً يقدّم إليهم كتيّباً أو منشوراً أو خرائط عن المواقع وعن تاريخها، فضلاً عن تاريخ صور والحضارات المتعاقبة. وما هي إلا خطوات قليلة حتى عاجلتها الخيبة الثانية. لا زوّار في الموقعين. الزوّار من عيتا الشعب الحدودية إلى صور الأثرية وجدوا أنفسهم وحدهم وسط الأعمدة والمقابر والأحجار الرومانية من دون دليل سياحي، بشريّ أو عبر اللافتات.
توضح صفاء أنها لم تنظّم الرحلة المدرسية إلى صور يوم أمس بسبب الدخول المجاني إلى المواقع الأثرية، بل اختارته لترسيخ فكرة التراث والحفاظ على الآثار في أذهان طلابها من خلال إحياء اليوم الوطني للتراث من جهة، ولتحقيق الدمج بين طلابها من ذوي الحاجات الخاصة، وطلاب المدارس الأخرى التي ظنت أن هذه المناسبة ستجمعها بهم. علماً أن مدرّسي مادة التاريخ في المدرسة يهيّئون الطلاب منذ أكثر من شهر لهذه الرحلة عبر تعريفهم بتاريخ صور بالمعلومات.
زيارة مدرستين من بيروت أضفت حركة في المكان، وخصوصاً أن إدارتيهما تنبّهتا مسبّقاً وأرسلتا مع فريق المعلمين المشرفين دليلاً سياحياً، وأستاذ مادة التاريخ اللذين نقلا الطلاب إلى عصور المدينة المختلفة انطلاقاً من الآثار الموجودة.

في بعلبك طلّاب مذهولون

جلس موظف قطع التذاكر في بعلبك يتفيّأ شجرة الصفصاف، والضحكة تعلو محيّاه، إنه يوم راحة، أما رفاقه، فكان يومهم شاقّاً، إذ عليهم إفهام الطلاب أن إدخال المأكولات والحقائب ممنوع إلى داخل الموقع الأثري، وعليهم التأكد أن الأولاد لن يقطفوا الأزهار أو يرموا زجاجات المياه على الأرض، وهم تهيّأوا منذ اليوم السابق لوصول أعداد كبيرة من الطلاب. «نسبة المشاركة في هذا الحدث متدنّية هذه السنة على عكس السنوات الماضية» كما يؤكد الدليل السياحي محمد وهبي، الذي يُعيد السبب إلى «أن الحملة الإعلامية التي سبقت هذا اليوم كانت خجولة هذا العام». أضاف «هناك عدد من المدارس من مختلف المناطق اللبنانية نظّمت رحلات لطلابها، والسيّاح الأجانب فوجئوا بأن الدخول مجاني».
كانت الدهشة بادية على وجوه الطلاب الذين أتوا إلى الموقع للمرة الأولى في حياتهم، فمثل الطالب حسن في الصف السابع الأساسي من مدرسة العصر في بيروت بعضهم رأى أن هذا الصرح شيّدته قوى خارقة، رافضاً كل «الشروح التي أعطاها أستاذ التاريخ». والأكبر سناً كانوا أكثر تأثراً، فطلاب الصفوف الثانوية في مدرسة مارجرجس في عين دارة «صرحوا بأنها المرة الأولى في حياتهم التي يشاهدون فيها شيئاً مماثلاً، لقد استفدنا من الدخول المجاني للقلعة، ولن تُمحى صورة القلعة من مخيلاتنا».
أن يزور أكبر عدد من الطلاب المواقع الأثرية هو هدف يوم التراث، ولكن زيارة من دون فهمها تبقى ناقصة، وتبقى الآثار مجرد أحجار قديمة ميتة وجميلة، لذا، فالشكاوى عن تنظيم هذا اليوم تصدح من كل المواقع. ففي جبيل يؤكد يزيد محفوظ، النقيب السابق للأدلّاء السياحيين في لبنان، «أن فوضى رهيبة تُرافق يوم التراث، وخصوصاً بتوافد ألوف الطلاب إلى المنطقة الأثريّة، مع ما يرافق ذلك من تخريب وتشويه لها، فالحرّاس فيها غير قادرين على ضبط الوضع. لذا يجب اتّخاذ خطوات عمليّة للحدّ من الفوضى». وفي صور، يقرّ علي بدوي، «بعدم وجود برامج معدّة سابقاً لإحياء هذه المناسبة، فيتنزّه المواطنون والطلاب بين الآثار من دون معرفة مسبّقة بتاريخها». ولقد رأى أن من مسؤولية وزارة السياحة أن «توفّر على الأقل دليلاً سياحياً دائماً في كل موقع، كما من مسؤولية كل من وزارات الثقافة والتربية والسياحة والجمعيات الأهلية المعنية وضع خطة وطنية للتقريب بين المواقع الأثرية والتراثية والناس».

شارك في التقرير: على يزبك (بعلبك) ـ جوانا عازار (جبيل) ـ فريد بوفرنسيس (طرابلس) ـ آمال خليل (صور)


يوم التراث

أن يكون للبنان يوم تراث ليس بالإنجاز المهمّ، فهو من ضروريات وطن يعود تاريخه إلى أكثر من 150.000 سنة. ولكن يوم التراث الأوحد في السنة مبدأ تخطّاه العالم الغربي، تحديداً لتفادي حالات الفوضى. كما أن تأسيس هذا اليوم هو لهدف «تثقيف الشعوب عن ماضيها»، وهذا أمر يستحيل الوصول إليه دون تأمين (مجّاناً) أدلّاء سياحيّين، وتوزيع خرائط ومنشورات. كما أن مبدأ يوم التراث السنوي استُعيض عنه بيوم للتراث في كل شهر لمنطقة معيّنة. مما يساعد على تنمية حركة السياحة المناطقية، ويبقي المواقع الأثرية «حية». ولكنْ تنظيمٌ مشابه لهذا يتطلّب مشاركة وزارتي السياحة والثقافة. وهذا ما لا يحدث في لبنان، فالحدث في عهدة المؤسسة الوطنية للتراث.


تكريم

افتيموس: مهندس بيروت


يوم التراث هذه السنة مكرس لأبنية بيروت القديمة، وبشكل خاص لمهندس أهم مباني العاصمة: يوسف افتيموس. إنها نظرة لافتة من المؤسسة الوطنية للتراث لهذا الإرث الثقافي المهدد تهديداً صارخاً. فأحياء بيروت القديمة باتت تعدّ على أصابع اليد الواحدة ولو بقي الامتداد العمراني على حاله من دون أي قانون يحمي هذا الإرث. فربما تتمحور هندسة بيوت بيروت في القرنين الماضيين بمباني أفتيموس. من مبنى بركات المعروف بمبنى السوديكو الأصفر إلى بلدية بيروت والتياترو الكبير، بصمات أفتيموس في العاصمة خالدة مع مرور الزمن. وكانت بلدية بيروت (وبعد مساع وعلى سنين) قد استملكت البناء وقررت تحويله متحفاً ومركزاً ثقافياً. جميل التذكير ببيوت بيروت، لكن محزن أن تمر المناسبة من دون المطالبة بقانون يحمي أبنية بيروت التراثية لكي لا يبقى مصيرهاً رهناً بمساعي محبّي التراث.