آن ندّورقبّل زوجته وطفلته ومضى إلى عمله بأمل. فوظيفته تضمن له ولأسرته دخلاً جيداً. كان المنصب الجديد الذي سيعيّن فيه أعظم مكافأة معنوية لخدمته خلال السنوات الماضية. وما همّه وهو يحيا في موطن قانونه العدالة الاجتماعية والمساواة وحاكمه الأمان. كان الغد بالنسبة إليه يوماً أفضل وأجمل. اتصل بزوجته قبل أن يدخل الشركة وطلب منها أن تتمنى له الحظ الجيد كما يفعل كل يوم. دخل الشركة، حيّا زملاءه ومضى إلى مكتبه.
استيقظ. لقد تأخّرت على عملك. أحسّ بصفعة أيقظته من وهم جميل. نظر في وجه زوجته الذي أرهقتها هموم اليوم وانكسارات الغد.
نهض من فراشه بجنون. ارتدى ثيابه وغادر المنزل. كان سائق التاكسي لا يتوقف عن الكلام. أشار متهكّماً: انظر إلى هؤلاء المجانين يقفون منذ الصباح الباكر أمام مبنى السفارات.
توقف. صرخ في وجه السائق. ترجّل من التاكسي وانضم إلى القوم المجانين. بدا علم الدولة الأجنبية شامخاً يرفرف بتكبر فوق رؤوس هؤلاء الغرباء في أوطانهم. أخذ مجموعة من الأوراق ومضى إلى منزله.
ماذا تفعل هنا في هذا الوقت؟ ما هذه الأوراق؟ تساءلت زوجته. إنها أوراق تخص الهجرة. الهجرة! أجل الهجرة. إلى أين؟ إلى أي وطن يعيدني مواطناً إلى وطني.
خيّم على الغرفة سكون قاتل قطعه بكاء الطفلة. اقترب من زوجته وعانقها كما لم يفعل من زمن وهمس «إلى أي وطن يزيل الهموم عن
قلبك».
مضى نحو طفلته، حملها من سريرها وضمها إلى صدره صارخاً: «إلى أي وطن تكبرين فيه بكبرياء». ومضى إلى الأوراق المبعثرة على الطاولة ينسج منها أحلاماً وأطيافاً.