حديقة الصنائع أكبر من مساحة خضراء. إنها المكان ــ الذاكرة، مواعيد الحب الأولى، مأوى الهاربين من القصف الإسرائيلي، ملعب أجيال كبرت على رنين «البسكلاتات» التي يؤجرها دكان قبالة الجنينة، أجيال لا تملك غير التنزّه فيها للتسلية. وبالتأكيد، ليس معها ما يكفي لشراء سيارة تركنها في موقف تحت الأرض أو فوقهابسام القنطار
اختارت الفتاة السمراء أن تطرب نفسها بالأغاني المحمّلة على الـ«آي بود» بعدما ملّت انتظار صديقها عند مدخل حديقة الصنائع. لم تكن الفتاة تستمع إلى أغنية أسمهان «دخلت مرة في جنينة» كي تسلّي انتظارها، وخصوصاًَ أن الأغنية تنطبق كلماتها على حالها وحال الحديقة بطيورها وأشجارها المعمّرة منذ قرن ونيّف، إذ تقول: دخلت مرة في جنينة/ أشم ريحة الزهور/ واسلي نفسي الحزينة/ واسمع نشيد الطيور». لكن السماع يقصّر الانتظار. وما هي إلا دقائق حتى وصل «العريس». تشبك الفتاة يدها بيده ويدخلان. يمر العاشقان بهدوء بالقرب من الطيور المشغولة بأكل فتات من الخبز والقمح لا يتوقف الزوار عن رميها، وتتقاتل عليها طوال النهار أسراب الدوري والحمام.
اختار الشاب لغة العيون ليبادل فتاته الحب على «البنك» الخشبي الصغير. لم يحاول أن يسترق قبلة، خوفاً من صفّارة الحارس المتأهب دائماً لعدم «خدش الذوق العام». وعلى عكس ما تنبأ زياد الرحباني في واحدة من حلقاته الإذاعية لم يفلس بعد هذا «البنك» الأخضر «كما كل البنوك (المصارف) الصغيرة».
لكن إفلاس هذا «البنك» اليوم، وكل مكونات الحديقة التي تعود إلى العهد العثماني، رهن بقرار المجلس البلدي لمدينة بيروت، الذي اختار أن يقيم على جزء كبير منها، مرأب سيارات تحت الأرض، سيقضي على المساحة الخضراء الوحيدة المفتوحة أمام فقراء لبنان وأغنيائه طوال العام (راجع الإطار).
تقع الحديقة في منطقة هادئة نسبياً في قلب بيروت، على بعد أمتار من وزارة الداخلية المشغولة بالإعداد للاستحقاق الانتخابي بعد أيام. وعلى جوانب الحديقة ترتفع أبنية ضخمة، بعضها تحمل اسمها وتغري الساكنين فيها بإطلالتهم على المشهد الأكثر اخضراراً، الذي بات علامة فارقة في الكتلة الإسمنتية الضخمة التي اجتاحت بيروت. وفي انتظار أن تتحول كلية الحقوق سابقاً إلى مكتبة عامة، تبقى الحديقة المتنفس الوحيد.
بالقرب من العاشقين، جلس عدد من المسنين الذين يرتادون الحديقة يومياً. بعضهم يحمل عصاه، والبعض الآخر ينفث سيجارته. وهناك من يجلس وحيداً على مقعد يتأمل في وصفة دواء ربما لم يستطع أن يشتريها من الصيدلية القريبة.
في زاوية بعيدة من زوايا الحديقة، يلعب عدد من المسنين «دق طاولة»، فيما يحيط بهم الأصدقاء والمتطفلون يشجع كل منهم أحد اللاعبين، مراهناً على احترافه «المحبوسة». لكن الأخير لا يبدو أنه يعتمد فقط على الاحتراف وحظه في الزهر، بل على خفة يد في نقل الأحجار من مكانها.
الحديقة التي تبرع بها آل طبارة عام 1908، اكتسبت اسمها من مدرسة مهنية لتعليم الصنائع والفنون أنشأها السلطان عبد الحميد الثاني في منطقة «حي الرمل» التي لم يبق منها رمل ولا صنائع. وحدها الحديقة بقيت بحجارتها الرملية المشابهة لحجارة المدرسة التي تحوّلت مقراً حكومياً.
حافظت الحديقة على معالمها ونمت فيها أشجار الكينا التي تجمع تحتها الأولاد والأسر والرجال الذين يبحثون عن بعض السكينة. معظم الأطفال ينجذبون إلى الحديقة لأنها المكان الذي يُسمح لهم فيه بقيادة الدراجات الهوائية المستأجرة من المحالّ القريبة بأسعار زهيدة.
لا تشبه حديقة الصنائع أياً من الحدائق الحديثة في الوسط التجاري، التي صممها مهندسون مختصون ويتفرغ لصيانتها يومياً عشرات العمال يزرعون فيها أزهار كالبيتونيا والورد الجوري والفيربينا التي تزرع على مدار العام في مشتل كبير تملكه شركة «سوليدير». فحدائق السوليدير الرائعة التصميم فشلت في استقطاب الأسر. هل يكون ذلك مجرد مساحة تجميلية؟
أجمل ما في حديقة الصنائع شجيرات متوسطة تقلم أوراقها دورياً لتكوّن محيطاً دائرياً متلاصقاً يتناسب مع شكل البركة التي تقع في وسطها. مع أن الأخيرة فقدت مياهها وتحولت إلى مساحة لركوب الدراجات الصغيرة بدورها. ويكتمل المشهد مع الانتشار الكثيف عند كلّ نقطة من السياج الخارجي لشجيرات الزعرور بحبيباتها الحمراء الصغيرة، وأشجار البوانسيانا التي تنبت أزهارها الحمراء في أيار وأشجار الجكرندا التي تنبت أزهارها البنفسجية في تشرين الأول، ثم تتساقط فارشة الرصيف بلونها الجميل ناثرة رائحتها التي تشبه رائحة «البونبون» في الأرجاء.
اكتسبت الحديقة سمعة ثقافية، واستحوذت على مخيلات الأدباء والمسرحيين من خلال عدد من الأعمال، بينها رواية «بناية ماتيلد» لحسن داوود التي تحكي قصة إبراهيم طراف الذي أُعدم شنقاً في الحديقة، لإدانته بقتل ماتيلد الحلو وابنها وتقطيعهما إرباً ورميهما في بؤرة قرب الحديقة. لكن كل إعدام جرى فيها، كان يستثير حنق المواطنين على دولة لا تفهم كيف تحمي ذاكرة مواطنيها. أما روجيه عساف فقد استوحى بدوره منها مسرحيته الشهيرة «جنينة الصنائع»، إضافة إلى عدد من الأغاني والقصائد.
تحولت الحديقة منذ عام 1992 إلى فضاء مفتوح للكثير من الأنشطة التي قامت بها الجمعيات والمحترفات الفنية. فكانت بداية انطلاق جمعية أشكال ألوان التي تطور مهرجانها ليصبح حدثاً ثقافياً. أما مركز الخيام لمناهضة التعذيب فجمع فيها كل عام أهالي المفقودين ضمن احتفالات اليوم العالمي لمناهضة التعذيب، قبل أن تصبح حديقة جبران في الوسط التجاري مكاناً لاعتصاماتهم المفتوحة وسط الخيمة المنصوبة منذ عام 2005.
في الطرف الشمالي الغربي للحديقة تقبع نافورة الحميدية. وهذه صممها المهندس يوسف أفتيموس عام 1900، ونقلت إلى الحديقة بعدما أخلت مكانها الأصلي لتمثال رياض الصلح في الوسط التجاري.
قلة من الزوار يعرفون الأهمية التراثية لهذه النافورة الرخامية الحمراء، المزخرفة بخط الطغرة العربي، التي أرادها السلطان العثماني عبد الحميد معلماً يؤرخ لعهده.
لكل واحد من زوار الحديقة حصته من ذاكرة الحديقة. آخر هذه الذكريات نزوح المئات من الأسر الهاربة من قصف الطيران الإسرائيلي خلال عدوان تموز 2006. حينها تحولت الحديقة ملجأً في الهواء الطلق لمئات الأطفال الذين افترشوا الأرض العارية تحت أغصان أشجارها، وتحولت مكاناً اجتمع فيه عشرات المتطوعين ضمن مبادرة سمّوها «صامدون لمساعدة النازحين»

الاعتصام قائم
تشهد حديقة الصنايع عند العاشرة صباح اليوم اعتصاماً للاحتجاج على قرار بلدية بيروت تحويل جزء من الحديقة إلى مرآب للسيارات. هذا ما أكدته أمس حنان الحاج علي، فيما أكد مازن حمدان (من المنظمين) لـ»الأخبار» إن التحرك قد ألغي بعد اجتماع عدد من منظمي التحرك ورئيس البلدية عبد المنعم العريس الذي وعد بالتراجع عن القرار.