نهلة الشهال*الخنازير التي جرى فعلاً «إعدامها» (بدون تعويضات تذكر لمربّيها، إن لم يكن بضعة جنيهات لا تقي من جوع)، كانت تطعم آلاف العائلات من الفقراء فقراً مدقعاً. إنهم «الزبّالون» في القاهرة، ملتقطو قمامة المدينة الهائلة صاحبة الـ17 مليون آدمي. والزبّالون في معظمهم هناك من الأقباط، (وهذا لا يعني أن الـ12 مليون قبطي مصري زبالون!). إنهم بضع عشرات من الآلاف، يقطن بعضهم في «المقطم» وسط القاهرة، وهو للتذكير المكان الذي انهار جانب منه نهاية العام الفائت، ساحقاً بيوتاً ونفوساً وصلت إليها سيارات شرطة مكافحة الشعب قبل سيارات الإسعاف بوقت. أما أغلبهم، فيسكنون في «عزبة النخل» في ضاحية القاهرة الشمالية، وهذه مدينة صفيح ربع سكانها من الزبالين المسلمين، كشف إعدام الخنازير أنهم كانوا، هم أيضاً، يربّونها (ليأكلوا)، فالقمامة المتكدسة مرعاها، فلا تكلف علفاً ولا من يحزنون: خلال حصار مخيمي صبرا وشاتيلا في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم، الذي استمر ثلاث سنوات، أصدر السيد محمد حسين فضل الله فتوى تجيز للمحاصَرين أكل القطط والكلاب! كان القصد لفت الأنظار إلى فظاعة ما يجري لمكان لم يكن قد استفاق بعد من هول المجزرة الإسرائيلية عام 1982، ولكنها أيضاً كانت إجازة للبشر الجياع بتجاوز المحرمات للضرورات.
بعد «إعدام» الخنازير، جاءت منذ أيام الجرّافات وحاولت تنفيذ قرار أقدم من ظهور الإنفلونزا (التي بالمناسبة استقلت عن هذا الحيوان وباتت تنتقل بين البشر، ولم تعد محاربتها تتطلب إعدامها، أقصد الخنازير!) بهدم عزبة النخل: فتّش، وستجد وراء القرار الوزاري صفقة للمضاربة العقارية المزدهرة. ما المقترح بديلاً للسكان، وهم حوالى عشرين ألفاً؟ حي جديد نابت من لا مكان وسط الصحراء، على بعد ثلاثين كيلومتراً جنوب القاهرة. ألن يتمكن الزبالون بعد ذلك من تربية أي شيء في ذلك المكان القاحل، لا خنازير ولا سواها؟ ها نظرية البشر الفائضين عن الحاجة تجد هنا أحد تطبيقاتها، ولولاها لما أمكن ارتكاب ما يُرتكب بحق أهل غزة، ولا في سريلانكا (بغض النظر عن التحليلات التاريخية والسياسية)... ثم شكراً للإيدز الذي يتكفل بعشرات الملايين في أفريقيا، تتكفل بسواهم الحروب الأهلية المنظمة بعناية، معطوفة على حروب الجيران. ألن يتمكن الزبالون، لو انتقلوا إلى ذلك المكان، من قطع المسافة للوصول إلى القاهرة والعودة منها، يجرون عرباتهم؟ فتّش، وستجد وراء التدبير صفقة ثانية تتعلق بشركة «مودرن» لجمع النفايات! قاوم السكان عملية الهدم ولم يغادروا عزبة النخل، التي وإن كانت تحيط بها هضبات من النفايات، وتسرح فيها الجرذان، إلا أنها تحوي أيضاً مدارس ومشفى ودار مسنين وميتماً وبضع كنائس، بنتْها الراهبة الفرنسية، الأخت إيمانويل، التي عاشت هناك عقدين.
كنائس! هذه التي في عزبة النخل أفلتت من قرار يربط بناء الجديد منها، أو ترميم قديمها، بمرسوم رئاسي. وحين يصدر المرسوم، تتلكأ السلطات في تنفيذه خشية ردود الفعل الغاضبة لجماعات من الأغلبية المسلمة وجدت حروبها الصغيرة... تتوالى الوقائع المجنونة كل يوم، وتغطي مصر من إسكندريتها إلى آخر الصعيد!
تدلل الولايات المتحدة جمعيات الأقباط المهاجرين إليها؟ وتمنح السفارات الغربية تأشيرات هجرة للمسيحيين العرب، فيما هي مستحيلة على سواهم؟ بعكس ما تظن عقول أصحاب الحروب الصغيرة، فليس السبب «التعاطف النصراني العالمي»، بل لأنها وسيلة سهلة لزرع بذور النزاعات الدينية أو العرقية. فإن لم يكن في صدامات دموية تشغل المجتمعات وتستنفد طاقاتها، ففي ضغوط ابتزازية على الحكومات لإبقائها دوماً حبيسة بيت الطاعة... لعبة تمارس بخطورة أكبر مع أقليات مسلمة في المنطقة، كالكرد والأمازيغ.
مؤامرات فحسب؟ يستمر الخطاب السائد في الاعتداد بذلك لتمويه انهيار إدراكه لـ«مسألة الأقليات». وهو انهيار يشي بما هو أكبر من دائرته، بالافتقاد إلى أجوبة أساسية عن المشروع العام الذي نطمح إليه. بل ينحط في الكلام عن «الهوية»، فتصبح جوهراً ثابتاً، معطى بسيطاً، أحادي البعد وبديهياً... أرى ذلك الرجل المنتشي بإعدام الخنازير يقول: كل هذا بسبب خنازير!
* كاتبة لبنانيّة مقيمة في باريس