سلام الكواكبي *حملت تصريحات البابا بينيديكتوس السادس عشر الأخيرة، والمتعلقة بأمر خطير وحيوي، ألا وهو استعمال الواقي الذكري، إشارة إضافية إلى تمثيله المؤكد للتيار «السلفي» في الكنيسة الكاثوليكية، التي ما فتئت، بجهد نُخبها المتعددة، تجدّد في الفكر الديني منذ قيام الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وخصوصاً بعد إصلاحات المجمع الفاتيكاني الثاني في 1965، وتوالي العمل الفكري والفلسفي النشط في إطار الكنيسة نفسها، الذي أعطاها أبعاداً أكثر إنسانية من مجرد اللاهوتية التقليدية.
لقد توجّه البابا إلى شعوب أفريقيا، التي تبلغ نسبة مرض نقص المناعة في قاطنيها أعلاها، شبه محذّر من استخدام الواقي رغم إثبات جميع التجارب العلمية نجاعته في الحد من انتشار هذا المرض الفتّاك، قائلا: «توزيع الواقي لا يحل المشكلة بل يزيدها». وبعد الصدمة التي أحدثتها هذه العبارة، حاول جهابذة التفسير القول بأن المقصود هو الواقيات المستعملة، وبأن الأفريقيين يعيدون استعمال الواقي لمرات، بل يتبادلونه في ما بينهم. وأتت هذه التبريرات لتزيد الطين بلة، وخصوصاً في الأوساط المؤمنة التي سرعان ما عبّرت عن صدمتها. وتبيّن ذلك في تصريحات المفكّرين اللاهوتيين الأوروبيّين، وكذلك في استطلاعات الرأي التي أعطت أرقاماً مذهلة عن مدى الإحباط الذي سبّبه هذا الموقف. فلقد عبّر 43 في المئة من الكاثوليك الفرنسيين عن أملهم في رحيل البابا. وفي روما، حيث الفاتيكان، أظهر استطلاع للرأي أن 52 في المئة من الإيطاليّين لا يتفقون البتّة مع ما قاله البابا. وأدى ذلك بصحيفة الفاتيكان شبه الرسمية «أوبزرفاتوري رومانا» إلى إجراء حديث مع أحد الأساقفة الذي تطرّق من خلاله إلى إمكان أن يكون الواقي الذكري مفيداً في الحد من انتشار هذا «الوباء». وبالتالي، تصريحات، وتكذيبات، وانتقادات واستطلاعات رأي تناقش مقولات الرجل الأول في الكنيسة وتنتقدها، بل وتدعوه إلى مغادرة منصبه.
وفي المقابل، تتحفنا وسائل الإعلام العربية والإسلامية، ذات الصدقية منها و«المغرضة» سواء بسواء، بفتاوى كارثية يتفوّه بها رجال دين مسلمون على قدر عال من الأهمية، منهم من يترأس مصالح الإفتاء في بلاده، مندّدين خلالها مثلاً بإظهار الدعم للشعوب المضطهدة بالتظاهر، ومعتبرين هذا النشاط نوعاً من البدع كما قرأناهم وسمعناهم خلال الحرب على غزة. أو الآن، وفي تاريخ مقارب ليوم المسرح العالمي، حيث نقرأ بأن المسرح هو «إلهاء للقلوب وإشغال للأمة عن التقدم»، أو في الإشارة إلى أن لعبة الشطرنج، التي تحفّز القدرات الذهنية، والتي يعدّ ممارسوها من أصحاب الذهنيات المتّقدة، ما هي إلا ضرر «إن تمكّن الشخص من إضاعة وقته وماله»... وتوفّر الأقنية الدينية مساحة تعبير تضاف إلى آلاف المنابر التي يحرّم منها أصحاب العقول المتنورة، مما يسهم في إغداق النصح «المضرّ» لملايين من المستلبة عقولهم أمام «علم» أصحاب العمائم، ولسنا ندري من عمّمهم.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فأمام هذا التسونامي الهائل من الفتاوى، التي يعدّ الغث منها أعظم قدراً وانتشاراً من الثمين، تفتقر الساحة الإسلامية إلى نقد منهجي ومساءلة فقهية ومطالب إصلاحية. فإن «اقترف» أحد الشجعان من قارئي النص وحاملي العلم خطوة النقد والمساءلة، انبرى له أصحاب النفوذ مكفّرين ومرسلين به إلى نار جهنم وبئس المصير. وعلى الرغم من أن المخيّلة الإنسانية ربطت أصحاب اللحى البيضاء بالعلم وبالعقلانية، فإن الواقع المؤلم في أغلب الأديان والمذاهب، أضحى يربطها بالإقصائيين، وفي حد أدنى بمن يبعث على الخوف والرهبة. ولن أعدّد أسماء الكثيرين ممن حاولوا واجتهدوا فوجدوا أنفسهم منفيّين جسداً وروحاً.
الفكر الإسلامي الحديث، لديه ذخيرة علمية تحمل موجات إيجابية تتجاوز جهل بعض المتعمّمين بقرون ضوئية، ولكنها لا تجد لنفسها المساحة التعبيرية المناسبة أو المتاحة. بل هي تعبّر عن نفسها من خلال الحلقات النخبوية الضيقة، ووسائل الإعلام البديلة كما الشبكة العنكبوتية. ولكنها بالتأكيد، لن تجد لنفسها منبراً إعلامياً واسع الانتشار، ليس فقط لأن الوسائط الإعلامية القوية النفوذ محصورة في أيدي أصحاب الفكر المتجلّد، بل أيضاً لأن عديداً من وسائل الإعلام هذه، تسعى إلى الحطّ من الثقافة المعمقة وأصحابها، وهي إن دعتهم في المناسبات النادرة إلى حوارات، فهي تسعى قبل كل شيء إلى تسخيفهم أمام مستهلكي الإعلام من مشاهدين أو مستمعين. وخصوصاً إن وضعت أمامهم محترفي الكلام من أصحاب العمائم المزيفة، الذين «يرغدون ويزبدون» ويلعبون بالتالي على أوتار الحساسيات الإنسانية الضعيفة التي تجعل من الإنسان «العادي» ضحية سهلة لظلاميّتهم.
وإلى جانب سلبية الوسائل الإعلامية بمجملها، نجد أنظمة عربية وإسلامية تحمل في أجندتها عقيدة نشر الدعوة وحماية «الأخلاق الحميدة»، ساعية من خلال أموالها أو أموال داعميها، إلى إفقار ساحة الفكر وإبعاد «العامة» عن هموم الحياة الحقيقية وأسئلة الوجود العميقة، بدفعهم نحو الخيالات والتوهّمات والبدع والفتاوى المدمرة لكل نفسية نقدية أو بنّاءة. وهي في ذلك لا تدافع عن عقيدة بقدر ما هي تدافع عن استمرارية في السيطرة على مجال روحاني يعدّ فيه الفرد ضعيفاً، ويمكن بالتالي أن يجري «التلاعب» به بسهولة نسبية. إضافةً إلى هذه النوعية من الأنظمة، تقف الأنظمة العلمانية الادّعاء إلى جانب هذا التسونامي، لسعيها إلى تجنب خطر غضبه ولبحثها بالتالي عن شرعنة تعتقد أنها تفتقدها في مجال تطغى عليه حالياً النوازع الفئوية والمذهبية والطائفية والدينية.
أين يذهب الإنسان الذي يبحث عن نقاش نقدي هادئ، والذي يعتقد بأنه صاحب ملكات عقلية تسمح له بأن يختار في أمور دنياه وفي أمور فكره ومجادلته؟
الغربيون طوّروا أدوات جدلية وفكرية تسمح لهم كدينيين أو علمانيين أو ملحدين، بأن يناقشوا البابا وأن ينتقدوه وأن يدعوه إلى الاستقالة، فيما يعدّ، وفي العقيدة الكاثوليكية، رجل لاهوت شبه مقدس. أمّا لدى المسلمين الذين يفتخرون بغياب الكهنوت في عقيدتهم، ويرون نظرياً أن رجالات دينهم مساءَلون وهم بشر مثلهم مثل العامة، فلا يوجد مثل هذا الحراك إلّا في مساحات ضيقة وحذرة ومهدّدة دائماً. فهل من حل؟

* باحث سوري