محمد بنعزيز *اتصل بي أحد الكتّاب الشباب وطلب لقائي. انتظرته على مقهاي المفضل على الكورنيش. جاء وتحدثنا عن الأدب المغربي ومشاكل النشر والقراءة والنقد، وهنا اقترح علي جليسي كتابة مقالات نقدية عن مجموعة من النصوص الأدبية، قصصاً وروايات، وأضاف أنه قرأ مقالي عن رواية إسماعيل كاداريه «الملف هـ» المنشور في مجلة «الكلمة» الإلكترونية التي يصدرها صبري حافظ.
قلت لجليسي إني سأرى النصوص ثم أقرر هل سأكتب عنها أم لا. هنا أوضح أني سأحصل على 100 دولار مقابل كل مقال نقدي لا يقل عن ألف كلمة. نقد أدبي بالدولار؟ ممتاز.
سألت جليسي عن أصحاب هذه النصوص فقال «خليجيون، سعوديون بالضبط». أجبت: أنا يساري، وقد أنجزت دراسة عن الزمن والفضاء في «مدن الملح» لمنيف، فكيف أنقلب على نفسي وأواصل العيش؟». أضاف صاحبي أنه تمكن من نشر كتاب في السعودية. أما أنا، فسبق لي أن نشرت مجموعة قصصية ولم يكتب عنها أحد، لأن عدداً كبيراً من النقاد منشغلون بتقريظ أدب البترودولار.
والحقيقة أن هذا التوجه سيزداد ما دام النفط يصبّ، ولا دلائل على أنه سينضب غداً. وما جوائز «الشعروالدولار» إلا إشارات إلى المستقبل الثقافي للعالم العربي.
طبعاً لم يبدأ تمجيد البنية الفوقية للبرميل فجأة، فمنذ عقدين والآلة تشتغل بكثافة على هذا الصعيد، لتحدث تغييراً هائلاً في الموقف والذوق العربي.
فبعد احتلال الكويت، خرج مئات آلاف المغاربة في مسيرات تضامنية مع العراق، واشتهرت أغنية تقول «تقدم تقدم يا صدام نحن معك للأمام»، أي أن يتقدم جنوباً. مثّل الحدث صدمة، حينها اكتشف الخليج صورته الحقيقية في العالم العربي، فوُضعت سياسية إعلامية ممنهجة ذات نفس وتمويل وخط تحريري محدد. طُبّقت هذه السياسة على مستويات مختلفة:
1ــــ على مستوى النشر، أنشئت أو اشتريت أو استُئجرت جرائد ومجلات وصحافيون مرتزقة وأكفأهم اليساريون السابقون، الذين انقلبوا ليس على مواقفهم، وهذا مفهوم، بل انقلبوا على التحليل المادي واستبدلوه بالسفسطة.
2 ــــ على مستوى الصورة، أُسّست قنوات فضائية عدة في لندن ثم دبي وبيروت، واستُئجرت أحزاب مع قنواتها، وقد كان اللبنانيون الحريريون ــــ أي الناعمون ــــ في المقدمة بفضل خبرتهم، كما مُوّلت مسلسلات مصرية بشروط، منها تمجيد تعدد الزوجات، وعدم التصوير والباب مغلق، ومنع ذكر تحديد النسل، وهي شروط فضحها السيناريست وحيد حامد. كلها شروط أفقدت الدراما المصرية روحَها. وقد انبرت تلك القنوات لبذر الأسلمة وإبادة كل مظاهر الحداثة. لكن بعد صدمة 11 سبتمبر ــــ أيلول 2001، اتضح أن الأسلمة الزائدة ليست حلاً دائماً، بل قد تصبح مصدر خطر. هكذا استُبدل الدعاة الملتحون بالوعاظ الحليقي
الوجوه. ولاحقاً حلّ الفيديو كليب محل حملات الوعظ. واحتلت صورة هيفاء وهبي مكان صورة بن لادن، وطغت أخبار نانسي عجرم على أخبار «طالبان»، وقدمت مسابقات «ستار أكاديمي» كمشروع واعد لتكوين الشبيبة. بالموازاة مع ذلك تكثفت دبلجة المسلسلات لتسلية المواطن العربي، آخر طبعة قادها مهند، وقد نجح في إلهاب المشاعر بتقديمه النموذج الرومانسي الذي تفتقده النساء في المجتمعات المغلقة.
لكن مهند، الروميو التركي المستورد، لم ينجُ من قانون السوق، فها هو في الإعلانات يبيع الأواني والشامبو، بل جعلته رولا في كليب مقزز عاشقها المصدوم... فابتذل النموذج، وحطم البترودولار بنفسه روميو الذي سوّقه. وهكذا أبطل سحر مهند لأنه فكك العديد من الأسر بسبب تبخيسه للنموذج المحلي للرجل. فما دام مهند يباع فلا يليق أن يُعشق. وهكذا سيستعيد سي سيّد الخليجي هيبته. ولم تستهدف الصورة الكبار فقط، بل تم تشكيل وعي شباب المستقبل على قناة «سبايس تون»، وقد أرغمتني ابنتي ذات الأربع سنوات على أن أشتري لها «فلة الإخوانية»، التي تصلي بحجاب وعباية تضغط على ردفين بارزين مثل زوايا حادة.
3 ــــ على صعيد الغناء، تطوع العديد من مشاهير العرب للغناء باللهجة الخليجية، أصالة وشيرين وآخرون... ثم جرى التركيز على الغناء الخليجي، وهذا حسين الجسمي يستنسخ مطلع قصيدة أبي تمام: «نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول». فأصبح محبوب الشابات، وصرن يستخدمن أغنيته رنة لهواتفهن.
وقد أثمرت هذه الخطوات توجهاً لتقزيم دور مصر الإعلامي والثقافي والفني، والسياسي أساساً.
ويمكن ملاحظة الشراسة التي تتناول بها القضايا المصرية في القنوات نفسها، بالمشرط والمطرقة. وما أن تتناول المسألة نفسها في بلد آخر حتى تتغير نبرة النقاش. أشهر مثال كان الحديث عن 500 حتى 800 قتيل مدفونين تحت الانهيار الصخري بالمقطم بالقاهرة. مع تقزيم مصر، ينفتح المجال للسعودية لتبادر، وقد نوه توماس فريدمان بمبادرة الملك عبد الله للسلام مع إسرائيل. بعد الإعلام والثقافة، جاء دور الاستثمار. فمنذ أحداث 2001، فرت مليارات الدولارات من الغرب بحثاً عن ملاذ في العالم العربي. استقبل المغرب 18 مليار دولار، حصلت «إعمار الإماراتية» و«ديار القطرية» وغيرهما على مواقع استراتيجية لبناء فيلات وشقق فاخرة وبأسعار هي أضعاف قدرة الطبقة الوسطى المغربية.
استثمار عقاري فاخر لا يستجيب لحاجيات السكان، بل يستجيب لطالبي السياحة الجنسية. وهذا باب للحكومة المغربية اجتهاد قضائي فيه، من باب الترحيب بالنشامة الخليجيين. فإذا اعتقل خليجي برفقة شابة مغربية، يطلق سراح الذكر وتقدم الأنثى للمحاكمة في حالة تلبس.
نتيجة لذلك، ذكرت الصحف أن ارتفاع عدد السياح السعوديين عوّض تراجع السياح الأوروبيين في منتجع آغادير جنوب المغرب، حيث فتح محل عبايات وموضة خليجية بدءاً من 60 دولاراً، وافتتح رجل أعمال سعودي مطعم «قلعة المؤيد» للأكلات الخليجية دون كحول، ويحتضن المنتجع المفضل لدى ولي العهد السعودي قصراً منيفاً على البحر، وقد كان فيه قبل أن يسافر إلى نيويورك للعلاج، ثم جاء بعده الأمير سلمان...
نتيجة لهذا الثقل المالي، يعتبر الخليجيون أنهم محسودون وعرضة لأطماع فقراء العرب. فدبي تنثر الأحلام وأزمتها الحالية تثير شماتة متسرعة. ومن باب التبجح، قال مشارك كويتي لفيصل القاسم في برنامج «الاتجاه المعاكس»: «أنت لولا النفط ما طلعت»... كثيرون لولا النفط ما طلعوا...
مع الأزمة العالمية يصبح هذا الثقل أوضح، فها هي «لوموند» الفرنسية تعرض إعلانات الشركات الخليجية، والمتاحف الباريسية تستأجر لدُبي، وفي المغرب اشترى الكويتيون أخيراً ثلث أسهم شركة «اتصالات»، وهو ما يسبب قلق «حزب» فرنسا في المغرب الكبير، حتى أن أسبوعية «جون أفريك» الباريسية عنونت أحد أعدادها «الخليج يضع يده على المغرب». طبعاً لهذا الثقل المالي دور سياسي، وقد تحدثت الصحف أخيراً عن استشارة المغرب لدولة خليجية قبل أن يقطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران.
مع تلك الحملة المنظمة، ومع تدخلات كهذا، ومع احتمال أن ينضب النفط في الكثير من دول العالم إلا الخليج، فلا مفر من تزايد ثقل البترودولار و«الشعرودولار». ومعه سيتضاعف وزن القيم الذكورية التي تتكيف دون أن تنقرض، وسيتعطر البيت العربي بالنفط والعود والوهابية والعنبر. وهو ما يزعج ما بقي ممن لم ينقلبوا على أنفسهم. وهم في النائبات قليل.
* صحافي مغربي