علاء اللامي *دفعت نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة في العراق المحتل إلى تسييد وجهة نظر على قدر كبير من التضليل وانعدام العلمية، رغم منطقيتها السطحية، تذهب إلى خلاصة مفادها أن الشر كل الشر، هو في هيمنة القوى الطائفية الدينية على الحكم القائم في عراق اليوم، والخير كل الخير في هيمنة القوى التي ترفع الشعارات العلمانية. وإذا ما أجّلنا، أو أخرجنا عامل الاحتلال من المعادلة ـــ وهذا مستحيل عملياً ونظرياً ـــ فسيكون الحل كما يعتقد أصحاب وجهة النظر هذه في فوز القوى العلمانية في الانتخابات، وهزيمة القوى الأخرى المناوئة لها.
لا يمكن طبعاً نكران أهمية الفوز الانتخابي في مجابهة سياسية كالتي نحن بصددها، بيد أن هذا الحل يبقى جزئياً ومؤقتاً وسطحياً، ولا يشمل جذور الحالة الاجتماعية السياسية برمتها، وقد ينتهي إلى استبدال «أصولية طائفية دينية» متحالفة مع الاحتلال بـ«أصولية علمانية» متحالفة مع الاحتلال هي الأخرى، ومشابهة لها من حيث الجوهر الاجتماعي والتاريخي. الحل الصحيح، أو المقترب من الصحة والصواب، يكمن في تغيير طبيعة النظام الحالي، ونعني نظام المحاصصة الطائفية العرقية القائم على أساس دستور ملفّق، ينظم ويهندس حركة وآليات هذا النظام التابع، في بلد محتل احتلالاً عسكرياً مباشراً، قد يتحول إلى احتلال غير مباشر لاحقاً.
المشكلة، إذاً، ليست في هيمنة القوى الطائفية بحد ذاتها، بل في دستور فاسد ومتناقض مع طبيعة المجتمع، يديم ويرسّخ ويقنّن تلك الهيمنة، ويسمح بوجود قنابل موقوتة كثيرة على طول سكة حركة النظام السياسي والدولة والمجتمع. لذلك ينبغي أولاً رفض نظام المحاصصة ونقضه وإبطاله واقتلاعه من جذوره، وتفكيك ما يسمى العملية السياسية القائمة على أساسه، لمصلحة قيام نظام ديموقراطي يمنع وجود أحزاب طائفية دينية، ولكنه يسمح بوجود أحزاب سياسية مختلفة ومتعددة المرجعيات والخلفيات، منها تلك التي تستوحي أخلاقيات دينية (إسلامية أو غير إسلامية، على اعتبار أن العراق بلد متعدد الديانات والطوائف)، وتنأى عن التكفير واستهداف إقامة الدولة الإسلامية (شيعية كانت، أي دولة ولاية الفقيه، أو سنية أي دولة الخلافة الراشدة)، بل تتطلع لإدارة الحكومة التي تفوز بها عبر الانتخابات وفق برنامجها المعلن.
إنّ التفريق بين الدعوي والسياسي من ضرورات السلم الأهلي في أي مجتمع، وبالأخص في مجتمع كالعراق متعدد المكوّنات. إن التجربة البرلمانية التركية، تصلح للاستئناس. فهي، على ما فيها من خصوصية وتطرف علماني أيديولوجي، نتج من التجربة الكمالية، أوجدت حركات وأحزاباً سياسية «مدنية دينية» (كي لا نقول «إسلامية علمانية» فنعكر هدوء بعض المحافظين). فقد وصل حزب «العدالة والتنمية» ذو الجذور والخلفية الإسلامية إلى السلطة، في تجربة غنية ما زالت متواصلة ومنفتحة على آفاق رحبة، تعطينا مشروعية استشراف علمانية ملائمة لمجتمعات مسلمة، تتبناها أحزاب سياسية مختلفة المشارب والمرجعيات، منها أحزاب مدنية ذات أخلاقيات دينية. وهذا أمر يمكن الاستئناس به في التجربة العراقية، ونقصد طبعاً في العراق المستقل والمتخلص من الاحتلال، بشرطين متلازمين: الأول يسير باتجاه التخفيف من التطرف العلماني الكمالي في تركيا والنأي عن مظاهره المناهضة للحريات العامة، كمنع الحجاب الديني النسوي على سبيل المثال، والثاني السماح بإنشاء أحزاب سياسية ذات مرجعيات دينية لا طائفية يمكنها أن تتخذ أسماءً بعيدة عن احتكار الدين بوصفه مكوناً اجتماعياً ليس من حق حزب سياسي معيّن احتكاره والنطق باسمه، شأنه في ذلك شأن العروبة كمكوّن اجتماعي ليس من حق حزب ما احتكاره والنطق باسمه حصراً.
إن حاجة العراقيين إلى هذين الشرطين ناتجة من حالة الاستقطاب الطائفي السياسية التي أوجدها المحتل وحلفاؤه المحليّون، ومن الأرضية المجتمعية المنقسمة تكوينياً بين الطوائف الدينية والمكوّنات القومية القائمة فعلاً منذ قرون عديدة.
لا شيء يمنع إنشاء الأحزاب السياسية ذات التوجهات الدينية ونشاطها، وهذا شأن مختلف عن السماح بقيام أحزاب دينية تستهدف إنشاء دولة ثيوقراطية تفتيشية كإيران، أو ثيوقراطية أوتوقراطية معاً كالسعودية. يمكن إذاً الأحزاب الإسلامية الشيعية أو السنية العراقية القائمة، كالحزب الإسلامي وحزب الدعوة الإسلامية وحزب المجلس الإسلامي الأعلى، إعادة النظر في أسمائها وبرامجها، بما يتناغم ويشرعن توجهاتها العملية التي أصبحت متقدمة كثيراً في الميدان، وبفعل متغيرات الواقع الاجتماعي، عنها في الكتب وكراسات النضال السري. ويمكن أن ينتهي ذلك المسار إلى أوجه بتبني توجه ديموقراطي من جميع الشركاء في نظام ديموقراطي ــ نعيد التكرار ــ لا علاقة له البتّة بالعملية السياسية الأميركية القائمة اليوم، توجه ديموقراطي يفرّق تفريقاً حاسماً بين الحزب الديني والحزب السياسي ذي الخلفية والتوجهات الأخلاقية الدينية، بما يضمن إخماد أية محاولة لإثارة السعار والاستقطاب الطائفي وشل فاعليتها.
ومن الطبيعي أن يحايث الكلام عن هذا الشأن التفصيلي في قضايا وإشكاليات الديموقراطيات الناشئة، موضوع الدستور الذي ينظّم حركة النظام والحكم القائم وأسسهما. والحال، فإن نظاماً يطمح إلى أن يكون أكثر فعالية في نشر الديموقراطية وترسيخها كآليات سلوك سياسي وقواعد له، وأكثر حيادية بين المكوّنات الاجتماعية، لا بد له من النأي عن شبكة التبعات الأيديولوجية التي توحي بأنها (أو هي فعلاً) منحازة دينياً أو قومياً.
وعلى هذا سيكون مفيداً تخليص الدستور والمرتكزات الحقوقية الأخرى من كل ما من شأنه عرقلة ذلك الحياد وتشويشه. وكمثال على ذلك لا بد من مراجعة تلك المادة التي تصر على إعطاء صفة دينية للدولة فتقول، وتجبر الآخرين على الإقرار، بأن الإسلام دين الدولة الرسمي.
إن هذه المادة التي يستميت الإسلاميون في الدفاع عن دسترتها، ويسكت عنها غير الإسلاميين، هي من منظور الفقه القانوني السائد غير ذات معنى لناحية المضمون: فهي غير صحيحة إذا اعتبرنا الدين شأناً شخصياً، يصح إطلاقه كصفة على الأشخاص الحقيقيين أو مجموعة الأشخاص الحقيقيين كالأفراد العاديين والقبائل والشعوب والمجتمعات، ولا يصح إطلاقه على الشخصيات الاعتبارية كالدولة والوزارة وفريق كرة القدم وغير ذلك. بمعنى محدد، يمكن القول إن الشخص الفلاني مسلم أو أن دينه الإسلام، وأن الشعب الفلاني مسلم أو دينه الإسلام، إذا كان فعلاً دينه الإسلام بنسبة مطلقة، أو القول في حالة العراق إنّ الدين الرسمي لأغلبية الشعب العراقي هو الإسلام. أما إطلاق صفة دينية على الشخصية الاعتبارية، فهو غير صحيح موضوعياً، إضافة إلى ما يولّده من مشكلات ذات منحى طائفي في الحياة السياسية العامة واليومية. لا يمكن أن نقول إن الدولة العراقية، أو أية دولة أخرى، دينها الإسلام، إذ إن الدولة كائن اعتباري فلا تصلي أو تصوم أو تعتنق ديناً.
وضمن السياق ذاته، يمكننا أن نقول إنّ الحكومة العراقية في فترة معينة إسلامية إذا كان برنامجها إسلامياً ويقودها حزب أو مجموعة أحزاب إسلامية، مثلما يمكننا أن نسمّي حكومة ما «حكومة اشتراكية» إذا ألّفها وقادها حزب أو مجموعة أحزاب اشتراكية. وجدير بالتذكير أن هذه المادة الخاصة بتحديد «دين للدولة» أُهملت تماماً، ولم يورد لها أيَّ ذكر القانونيّون المصريّون آنذاك، وكان بينهم فطاحل في القوانين الدستورية في مشروع دستور الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر في الستينات من القرن الماضي،
* كاتب عراقي