بيسان طيفاجأني صديقي المصري، رماني ياسر بجملة لم أكن أتوقعها، قال لي من دون سابق إنذار «يللا سنمضي السهرة الليلة في شارع مونو؟». نظرت إليه مستفسرة «ماذا تقصد»، أجابني بكل جدية «حدثت زوجتي كثيراً عن السهر في شارع مونو، وها هي في بيروت، سأريها الحانات، والشارع، والأبنية القديمة، السيارات الفارهة، الفتيان والشابات، الموسيقى التي لا تهدأ...»، تابع ياسر تعداد ما حفظه من معالم المنطقة، راح يعدد أسماء الحانات، يروي أحداثاً ظريفة عرفها في ذلك الشارع، يوم داخ صديقه الدبلوماسي العربي هناك، ويوم استل صديقاً آخر قطعة الليمون من أمامه فلم يجد ما يُطفئ به رمقه بعدما تناول «شوت» التكيلا.
هو يتحدث وأنا أحاول أن أقاطعه لأشرح له أمراً واحداً، واقع مونو حالياً. ولأن الصبر مفتاح الفرج، تركته إلى أن أنهى مطالعته، وقلت له بهدوء «مونو لم يعد كما كان قبل سنوات قليلاً، السهر صار له عنوان آخر، الجميزة».
«يا لهوي» ردت الزوجة، يا لهوي! هذه مفاجأة ثانية، لم أفهم لماذا تولول، فهمت أنها فوجئت بسرعة تغيير العناوين ومعالم الحياة في لبنان.
أخذت نفساً عميقاً، ثم هززت رأسي موافقة، نعم السرعة عندنا تطال القشور فقط، بالأمس القريب مونو، اليوم الجميزة، وغداً، نعم في الغد القريب جداً، ستنتقل ساحات السهر وعناوينه إلى شارع آخر.
ولكن ذلك لا يمنع من القيام بجولة في مونو... إلى الشارع الأثير انطلقنا.
الهدوء مثّل «صدمة ثقافية» بالنسبة إلى ياسر، هل يبدل المكان، أي مكان جلده بهذه السرعة؟ هل يمكن أن ينقلب من صورة إلى صورة معاكسة بلمح البصر؟
حاولت أن أشرح له أن الشارع كما عرفه لم يكن في حالة مثالية، وأن سكان المنطقة كانوا يعانون من الضجة التي كانت تقلق راحتهم، بل تمنعهم من النوم حتى ساعات متأخرة، وأن حياة الليل الصاخبة تمنع الساكن في المنطقة من تنظيم حياته وفق المواعيد التي يرغب بها، ووفق الأفكار والعادات التي يؤمن بها.
لم يجادل في الأمر، لكنه كان مأخوذاً بالتبدل السريع «الناري» الذي طرأ على المكان، أزعجه السكون الذي صار أشبه بالموت، بعدما كان الضجيج يجعل المكان أحمر بلون الصخب المجنون، «ألا تحبون الحلول الوسطى؟» سألني، ألا يمكن أن ينسحب الضجيج لتحل مكانه أشكال أخرى من النشاط؟ إيقاع مختلف للحياة؟
لم نذهب إلى الجميزة، هناك حيث انسحب الحرفيون من محالهم لتحل مكانها حانات وملاهٍ ليلية، لم نذهب إلى هناك بسبب زحمة السير الخانقة عند مدخل الشارع، لم نذهب لأن ياسر لم يعد يريد أن يحفظ أمكنة في بيروت ثم يفاجأ بتغييرها الجذري، لم يعرف أننا نحن ما زلنا نتفاجأ، بل نحزن، لأن بيروت لم تعد تتسع لأنواع مختلفة من الحرف، لأشكال معينة من العمارات...
ما الحل؟
لم نفكر طويلاً، تذكرنا ما نحفظه من دندنات، أغنية خالد الهبر، «خدني معك وديني ع شارع الحمرا...».
هناك لنا جلساتنا، وأمكنتنا، شارعنا الذي نستعيد فيه كل ما نحب، حاناتنا التي تشبهنا. ياسر كان مسروراً ونحن ــــ أصدقائي وأنا ــــ نشرح له كيف بدأت منطقة الحمرا تستعيد في الفترة الأخيرة ألقاً ومكانة كادت تفقدهما في ظل السياسات التي ضربت، عفواً حكمت، البلاد في فترة ما بعد الحرب الأهلية.