إيلي شلهوبربما هي إحدى المرات النادرة التي يصدق فيها عمرو موسى. قالها بثقة العارف واطمئنان الحكيم: لا جديد، فإسرائيل «لم تلتزم بالتفاهمات... نعرف أن موقفها سلبي عندما يتعلق الأمر بالسلام وبمبادرات السلام». كان يتحدث عن القنبلة التي فجّرها أفيغدور ليبرمان لدى تسلمه وزارة الخارجية الإسرائيلية بتأكيده تبرؤ تل أبيب من مؤتمر أنابوليس ورفضها «التنازل» عن هضبة الجولان المحتلة لسوريا.
فات «حكيم العرب» أن العبرة ليست في ما قاله زعيم «إسرائيل بيتنا»، وهو عن حق كلام قديم قُدّم بـ«أسلوب جديد» و«بطريقة فظّة وعدوانية جداً». طريقة هي السمة المميزة لشخصية ليبرمان، الذي ينادي بدولة يهودية صافية تشترط المواطنة بالولاء، فضلاً عن تهجير فلسطينيي 48 بذريعة مبادلتهم بمستوطنات الضفة الغربية، ويرفض فكرة «الدولة الفلسطينية» مع تأكيد وجوب الاكتفاء بـ«الحكم الذاتي» مع رمي غزة (التي توعدها بالنووي) في أحضان مصر والضفة في أحضان إسرائيل، ويطالب بتصفية قادة «حماس» ورميهم في البحر الأحمر، ويصرّ على استبدال معادلة «الأرض مقابل السلام» بـ«السلام مقابل السلام».
العبرة هي في مجرد بلوغ ليبرمان هذا المنصب الحساس، وتكريس نفسه ضلعاً رئيسياً في الائتلاف الحكومي الجديد. صحيح أن واقعة تحقيق «إسرائيل بيتنا» نتائج انتخابية لافتة (15 مقعداً في الكنيست من أصل 120) كرسته الحزب الثالث في إسرائيل بعد «كديما» و«الليكود»، ليست بالأمر المستغرب. معروف أن هذه الدولة المصطنعة تتجه يميناً منذ سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً منذ عام 1977، عندما فاز اليمين في أول انتخابات وتولى مناحيم بيغن رئاسة الحكومة، بعدها، تولى «الليكود» الحكم 21 عاماً و«كديما» ثلاثة أعوام، فيما سيطر «العمل»، الذي شارف على الانهيار، ثماني سنوات فقط.
لكن مجرد السماح بترجمة هذا الأداء في صناديق الاقتراع بهذا الشكل في التشكيلة الحكومية يعني أمرين:
الأول، أن العنصرية في المجتمع الإسرائيلي ليست حالة طارئة، أو كما يقال الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. بل إنها مرض متأصل في كينونة هذا المجتمع، العدواني بطبيعته، والفوقي بتركيبته. مجتمع مفطور على رفض الآخر. قام بالقوة، التي أضحت اسلوب حياة عنده. متعجرف. لا قيمة فيه لغير الإنسان اليهودي. المجازر بالنسبة إليه حق دفاع عن النفس...
خلافاً لما هي الحال، على سبيل المثال، في فرنسا، التي تتجه يميناً منذ سنوات، وفيها يمين متطرف يحقق تقدماً متصاعداً في صناديق الاقتراع. لكنّ المجتمع الفرنسي، ككل متكامل، يمتلك حصانة ثقافية ضد أنماط كهذه من الأحزاب السياسية. هذا ما ظهر خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2002، عندما فاز كل من جاك شيراك وجان ماري لوبان في الدورة الأولى منها وانتقلا إلى الدورة الثانية. كانت النتيجة للأول 82 في المئة وللثاني 18 في المئة.
أما الأمر الثاني، فهو أن إسرائيل لا تقيم وزناً لأحد، لا في القارة الجديدة ولا في القديمة، وبالتأكيد ليس لأيٍّ من قاطني المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج. هي تُدرك أن عشيقها الأميركي لا يحتمل زعلها، وأن «جلادها» الأوروبي لم يبرأ بعد من عقدة المحرقة. لكن الأهم أنها تعي أن «الأعداء» العرب، و«الأصدقاء» منهم، ليسوا أكثر من قبائل متصارعة، تستجدي رضاها. مجرد متسولي سلام على أعتابها. اشبه بجواري أيام زمان، يتعرضن لكل أنواع الاستغلال والتعنيف ومع ذلك لا يفارق تعبير «أمرك سيدي» شفاههن.
لم تكن الحال كذلك، على سبيل المثال، في النمسا عندما فاز حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة يورغ هايدر بـ27 في المئة من أصوات المقترعين في انتخابات عام 1999. نتيجة أتاحت له عام 2000 المشاركة في الحكومة الائتلافية برئاسة المستشار وولفغانغ شلوسل. عندها قامت الدنيا ولم تقعد. استعر الغضب في أوروبا التي فرضت دولها عقوبات دبلوماسية على النمسا استمرت لأشهر، أجبرت هايدر في النهاية على التنحي عن رئاسة حزبه.
أكثر ما يثير الشفقة في هذه المعمعة عبقرية النظام في مصر، التي يبدو واضحاً أن ليس في تل أبيب من يراها. سبق أن هددوا وتوعدوا بعدما قال ليبرمان عن حسني مبارك: «فليذهب إلى الجحيم»، وهدد بقصف السد العالي، مفخرة الإنجازات المصرية. ومع ذلك لم يعرهم أحد اهتماماً. جاء ليبرمان، وضحك عليهم بجملة عن دور مصر في المنطقة، فانتشى حسام زكي، الذي عدّ ذلك «بديهيات» وأن القاهرة «لا تحتاج إلى شهادة من أحد»، فيما كان أحمد أبو الغيط، الحريص على «كبرياء» بلاده، يعلن الحُرم: «لن أصافحه».
فضلاً طبعاً عن العربان، والأمين العام لجامعتهم، عمرو موسى نفسه، الذي خرج بعد القمة العربية الأخيرة يشرح الخطوات الجبارة التي اتخذها «الزعماء» في شأن مبادرتهم السلمية العتيدة المطروحة على الطاولة منذ ثماني سنوات: «سنراجعها في نهاية عام 2009».
أما ليبرمان، فلم ينتظر ثماني دقائق ليحسم خياره؛ قال للعرب بما معناه: «اذهبوا إلى الجحيم»، وللإسرائيليين: «استعدوا للحرب».