رنا حايكيتطلب الأمر جرأة أدبية عالية للبوح بهذا الرأي: أفضّل لبنان الدامي على ذلك الذي تسوّق له وزارة السياحة.
فشعار «السياحة والاصطياف» ليس سوى قشرة لمّاعة تُخفي وحولاً مدفونة في العمق كحقيبة سوداء، تفوح رائحتها العفنة كلما نطق زعيم على منبر، واصطف مواطنون كقطيع من الغنم تحت لواء شعاراته السخيفة.
لبنان الدامي أصدق. يشبه نفسه أكثر، حين يُسقط أقنعة الادعاءات الواهية ويقرّ بعدم اعتناقه الكلام المجتر لأغاني «الوحدة الوطنية» و«العيش المشترك» التي تروّج لقيم من المستحيل على أي كائن بشري أن يعتنقها طوعاً.
فالمنفعة هي التي تحكم السلوك البشري. وسطوة القانون وسلطة الدولة (لا رجالها وزعماؤها في مزارعهم)، هي التي تحقق العدالة، وتخفي الأنياب. هنا، يروَّض ما اتفق الفلاسفة على تسميته الحيوان الناطق، بعد أن تهذِّب النظم المدنية الفعلية «ذئبيته».
أما حين تكبت تلك الذئبية، ذئبية أخرى مضادة، ويسود «العدل» بين مختلف القبائل، على قاعدة «مرّقلي تمرّقلك» اللبنانية بامتياز، وحين يتنازع شركاء الوطن على قالب من الحلوى ينغل سوس الحقد في طياته بينما تكسوه من الخارج طبقة السّكر الجذابة المزينة بشعارات الوحدة الوطنية، حينها يصبح البناء هشاً، والسلوكيات التي «لا تنضح بما فيها» مخادعة، فلا يعود المواطن ولا الوطن يشبهان نفسيهما. يخسرونها ولا يستعيدونها إلا خلال الحرب التي تطلق شياطينهم النائمة.
عندها، يمكن البوح: أفضّل لبنان الدامي.
ففي الحرب، يصبح الميليشياوي أصدق، إذ يطلق العنان لعنفه الملعون. ويصبح الجار الذي يتستر على طائفة جاره لإنقاذه من القاتل أصدق حين يترك «الحرب للزعران»، رغم الفرصة المتاحة له للغوص في دوامتها، ويتفرّغ لتبادل أطباق اليخنة مع جاره.
في الحرب، يكتسي الدم المهدور طابعاً أكثر إنسانية من ابتسامات صفراء لنخب تلجأ إلى «تحسس مسدسها» أمام أصدقاء، كانت تتقاسم معهم سهرات «الليالي الملاح»، وتعودهم في المصائب، ليصبحوا من ألدّ الأعداء كلما علت وتيرة الشحن الطائفي وسحبتهم موجة التحريض الذي يطلقها زعيم القبيلة في خطبة عصماء مليئة بالأخطاء اللغوية.