محمد شعير
علاء الديب في السبعين. لا يعرف كيف مرّت عليه هذه السنوات، لا يشعر بأنّه فعل ما يكفي خلالها. صاحب «زهر الليمون» (1978)، إحدى أعذب الروايات في الأدب العربي، قرّر الخروج من «عزلة السنوات الأخيرة» بعد خمس عمليات جراحيّة إثر خطأ طبي. قرر أن يتعلم استخدام الكومبيوتر، «كأنّني أتعلم الكتابة والقراءة من جديد»، يقول. يحبّ وصف نفسه بـ«المسافر الأبدي»، تماماً كأبطال رواياته، الباحثين دوماً عن لحظات السكينة والأمان، في جوّ الهزيمة والانكسار. هكذا، جعل من بيته الهادئ الذي ورثه عن والده في ضاحية المعادي، «جزيرةً» بعيدة عن صخب القاهرة، مفضّلاً العزلة كـ«وسيلة نجاة».
النجاة من معمعة المعارك الصغيرة: هذا كل ما خرج به من الدنيا. سألته عن أقرب شخصيات رواياته إليه: أجاب «كلُّهم أنا!». مع أنّها شخصيات مهزومة ومحبطة؟ ضحك: «أنا أعشق المهزومين، وأكره الذين يدَّعون الانتصار دائماً. يتحدّث عن الطاولة الصغيرة التي تتوسط مكتبه: «لم أغيّرها منذ أربعين عاماً، ولا أستطيع الكتابة بعيداً عنها».
يحمِّل نفسه مسؤولية نكسة 1967، فقد كان عضواً في التنظيم الطليعي ـــــ أسّسه عبد الناصر بداية الستينيات داخل الاتحاد الاشتراكي ـــــ لكنّه استيقظ فجأة ليجد الأحلام تهشّمت مثل الزجاج. يحكي في كتابه «وقفة قبل المنحدر» (1990): «سألني شاب عزيز يصدّق كلماتي ويتأمل فيها: ماذا فعلت في 67 وماذا فعلت بك؟ قلت من دون تدبّر: قتلتني ومن يومها وأنا ميت». في شبابه الباكر، تنقّل بين «الإخوان المسلمين» والتنظيمات اليساريّة، لكنّه وجد نفسه في«قلب النظام» كما يقول. «كنت أعمل في الصحافة، وهي كما أوهمونا في ذلك الوقت «الكتيبة الأولى». ثم دخلتُ التنظيم الطليعي، ما ضخّم حجم المأساة بالنسبة إليّ، وصرت أحمِّل نفسي مسؤولية الهزيمة كاملة». لهذا السبب ربما، تدور كل رواياته حول هذه اللحظة وتأثيراتها المستمّرة: «كنت مصدّقاً للأحلام الكبرى التي بشّرونا بها قبل النكسة». السؤال الذي يسأله علاء الديب لنفسه دائماً: كيف صدق هذا الوهم، رغم أن النظام ضمّ قبل النكسة مظاهر تفسّر حدوث ما حدث؟ كانت لديه إجابة «مليودرامية» يردّدها بينه وبين نفسه مبرِّراً بها كل الضياع الذي عاشه بعد النكسة: «أنّني مت».
في ذلك التوقيت، كانت الكتابة ضرورة بالنسبة إليه، ووسيلة من وسائل المقاومة بعد سنوات من الشعور بـ«اللاجدوى والعدمية الفظيعة». هو لم يكن مقاتلاً، بل مجرّد فرد من أفراد الطبقة الوسطى البرجوازية. يضحك: «حتى اليساريين في فترة ارتباطي بهم، كانوا يصفونني بالمثقف الذي يحبّ الكلام. كان صعباً عليّ في تلك الفترة وأنا أخطو نحو الخامسة والثلاثين من عمري، استحضار وجه جديد من النضال والكفاح، كما أنّ الاشتراكية في ذلك الوقت كانت قد بدأت تتشرّخ».
في ذلك الوقت أيضاًَ، كان على الجميع حسم مواقفهم: اكتب للسلطة إذا أردت تقديم أوراق اعتمادك لها. لكنّ علاء رفض هذه المغريات، واختار ركناً صغيراً في مجلّة «صباح الخير» بعنوان «عصير الكتب»، لتقديم خلاصةٍ عن أحدث الإصدارات، تاركاً الساحة لمن يريد. «أظنّ أنّ هذا أهمّ ما خرجت به: النجاة».
لم يقتصر عمله الصحافي على تقديم الكتب، فقد عمل في قسم التحقيقات في «صباح الخير». سافر في أنحاء مصر، ليكتب تحقيقات بلغة أقرب إلى الشعر، من بينها تحقيق عن امرأة في جنوب مصر، قتلت ابنها لأنّه باع أرض والده، وألقت الجثّة في بئر وجلست بجوار البئر ككتلة من السواد لا تتحرك.
لغة التحقيق جذبت المخرج شادي عبد السلام الذي كان قد انتهى من كتابة سيناريو «المومياء»، وظلّ يبحث عمّن يكتب له حوار الفيلم. وجد ضالّته في علاء الديب. يتذكّر: «كان شادي يتردّد دائماً على صديقيه آدم حنين وجمال كامل في المجلة، وقرأ سلسلة التحقيقات التي قمت بها، وشاهد مسرحية «نهاية اللعبة» لبيكيت التي ترجمتها في محاولة مني لتطويع الفصحى كي تتسع للسخرية والعبث، فعرض عليّ العمل معه في حوار الفيلم». عملا معاً، وكانا يستغرقان يوماً كاملاً لكتابة صفحتين أو ثلاث على الأكثر، بلغة وسيطة مفهومة للجميع، وفيها جمال ملائم للصورة. لم يكرِّر علاء الديب تجربة السينما مرّة ثانية، إذ لم يغره أحد بالعمل معه مثل شادي. يضحك: «عندما أصدرت «زهر الليمون» قال لي محمد خان وداود عبد السيد: أعمالك مغرية سينمائياً، لكنها لا تصلح الآن، إنما بعد 25 عاماً أخرى».
لم تكن تجربة السينما والصحافة التجارب الوحيدة اللامعة في حياة صاحب «قمر على المستنقع»(1993). فقد نقل إلى المكتبة العربيّة أعمالاً لبيكيت، وهنري ميللر، وبيتر فايس، وإنغمار برغمان، وكتابات سياسيّة عن هنري كسينجر... لكنّ أشهر إسهاماته ترجمة لكتاب «الطاو» (الكتاب المقدس لدى الصينيين)، وها هو يعمل على تقديم ترجمة أخرى للعمل نفسه: «أجد متعةً في محاولة صياغته مرة أخرى، من المهم جداً أن يكون هذا النصّ سهلاً وبسيطاً كالماء». يضيف: «مع تعلُّمي لاستخدام الكومبيوتر، اكتشفت 75 ترجمة للطاو، فضلاً عن 7 ترجمات عربية له». وراء هذا الكتاب «طاقة عجيبة»، وراء كل كلمة فيه نافذة تطلّ منها على العالم، حتى عنوانه له أكثر من معنى: «الطريق إلى الفضيلة، طريق الماء». الطاو كتبه لاو تسو وكان مستشاراً للملك، لكنه قرّر ترك منصبه ومغادرة البلاد. على الحدود، استوقفه فلاح ورفض أن يدعه يغادر إلّا إذا قدّم «حكمته» بعد سنوات العمل في السلطة. فكتب 81 قصيدة تدور حول قدرة الإنسان على المعيشة السهلة مع الطبيعة والآخرين والعالم من حوله، «من دون تعليمات وفروض وثواب وعقاب وترهيب وترغيب»... كما يحدث في الديانات الشرقية.
هذا ما يبحث عنه علاء إذاً من وراء إعادة ترجمة «الطاو». يقول: «الكتابة الإبداعية أصبحت صعبة جداً». يعمل منذ سبع سنوات في رواية «صيد الملائكة»، ويحاول فيها تفسير كلمة «برغماتية» باعتبار أنها اللبنة الأساسية في الحضارة الأميركية المسؤولة عن كلّ الشرور في العالم، وجعلت «النجاح» يقتصر فقط على «الوصول» بعيداً عن «الخير والحق والجمال». حتى إنّ أسوأ شتيمة أميركية هي «يا فاشل!». الرواية عن شخص له ثلاثة أصدقاء، يفقدهم بالتدرّج لأنّه متمسّك بقيم وإيديولوجيات تفكّكت وانهارت، لأنّه شخص مثالي. هل هو أنت؟ يضحك: «فيها جزء مني، وجزء من أصدقائي، لكن شخصياتي نقعتها في طشت غسيل، من كل الناس الذين عرفتهم في حياتي، واستخرجتها منهم».
فجأة توقف علاء الديب عن الكلام. قال سأحكي نكتة: «منذ سنوات، ذهب ناقد صيني لزيارة صديقنا الفنان آدم حنين. قال له: أعمالك النحتية رائعة. فقال حنين: لكنني تعبت جداً كي أصل إلى هذا المستوى. فرد الصيني: بالتأكيد: أصعب شيء في النحت السبعون عاماً الأولى. أنا أقول: أصعب حاجة في الكتابة السبعون عاماً الأولى!»


5 تواريخ

1939
الولادة في حيّ مصر القديمة في القاهرة

1960
إجازة في الحقوق

1961
صدرت ترجمته لمسرحية صموئيل بيكيت الشهيرة «نهاية اللعبة»، وبعدها بثلاثة أعوام أصدر مجموعته القصصية الأولى «القاهرة»

2001
حصل على جائزة الدولة التقديرية فى مصر

2009
صدور أعماله الكاملة عن «دار الشروق». ويوشك على الانتهاء من ترجمة ثانية لـ«الطاو» ويصدر له أيضاً كتاب «عصير الكتب»