ريمون هنّود مع اقتراب استحقاق 7 حزيران الانتخابي، بدأت نيران الحملات الانتخابية المستعرة. وقبل أقل من شهرين من موعد الاستحقاق، تقذف حممها على عواطف ومشاعر المواطن الخائر المنهك والحائر التائه ما بين البقاء في مكانه الذي اختاره عام 2005 أو الانتقال إلى ضفة أخرى. ومما لا شك فيه أن المعارك ستكون حامية الوطيس وعلى أشدها في المناطق ذات الأغلبية السكانية المسيحية وخاصة أن كل طرف من الطرفين المتصارعين منضو تحت لواء محور سياسي إقليمي معيّن. فالعماد عون تمكّن من إحداث تغيير جذري في ذهنية نسبة 45 في المئة على الأقل من النسيج الاجتماعي المسيحي. والمعروف أن جزءاً كبيراً من المسيحيين كانوا تاريخياً من رافضي الإقرار بعروبة لبنان ومن المطالبين الأساسيين بفصل المشكلة اللبنانية عن مشاكل الأشقاء العرب المحيطين بلبنان، وخاصة عن قضيتي فلسطين والجولان.
لا شك في أن سياسات العماد عون المعتمدة منذ عام 2006 جنّبت البلاد الكثير من المآسي والويلات، مع أن الرجل لم يعمد إلى أي شكل من أشكال التغيير الأيديولوجي العقائدي أقلّه إزالة الصبغة السياسية المسيحية عن شخصه وعن تياره. ولكن المعضلة الكبرى تبقى في تشبّث اليمين المسيحي المتمثل بأحزاب الكتائب والقوات والأحرار وبقايا قرنة شهوان وبعض العائلات التقليدية والإقطاعية بمواقفهم الساخطة والنافرة من انضواء لبنان «المقاومة والجيش» في لائحة دول الممانعة العربية المدعومة من بلاد الفرس.
وهنا لا بد من الإضاءة على أهداف هذا الفريق وهواجس وخاصة قبل الاستحقاق الانتخابي العتيد. لا شك في أن أحزاب اليمين المسيحي جد مسرورة من النهج السياسي الذي اعتمده تيار المستقبل منذ عام 2005، أو بالأحرى منذ لحظة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتخلي عن سياسة القومية العربية وعقيدتها.
إنّ أهداف اليمين المسيحي الحقيقية تتجلّى بمحاولة إعادة لبنان إلى عصر ما قبل انفجار الحرب الأهلية عام 1975 وسمات هذه الأهداف تتلخص بالتالي: العمل الدؤوب، بكل ما أوتي من قوة، على إنهاء حالة المقاومة بهدف فصل المسار اللبناني عن الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، تحت ستار بدعة الحياد الإيجابي البنّاء، وهي ليست إلا هرطقة سلبية إذا ما نجح منشدوها ومنتجوها ومخرجوها في فرضها فستكون بمثابة آلية تصب الزيت على النار وتوقع البلاد فريسة لمآزق ومآس لا تحمد عقباها. وهنا ينبغي على أحزاب اليمين التوقف عن حماستها في الرهان على رياح ساداتية مُعدّة لغزو لبنان، وبالتالي عدم التعويل على القرار 1701 واعتباره ترياقاً. فالمقاومة استطاعت تخدير هذا القرار وأبطلت مفاعيله، بدليل ازدياد عدد صواريخها أضعافاً مضاعفة عمّا كان عليه العدد قبل عدوان 2006. وورقة «المعلاق» التي يحتفظ بها هذا القرار لم تعد تنفعه وتنفع معدّيه. أما السؤال المطروح، فهو: متى يخرج اليمين المسيحي من هلوساته وهذياناته؟ تلك الهلوسات والهذيانات الخطيرة التي إذا تجسّدت صورها واقعياً (وإن كان إمكان النجاح في ذلك مستبعداً بدرجة كبيرة) فقد تضع لبنان على فوهة بركان حرب أهلية جديدة نظراً لرفض أكثر من خمسين في المئة من مجمل الشعب اللبناني عزل لبنان عن الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي ورفضه تثبيت مقولة أن لبنان خاصرة سوريا الضعيفة وتحويله إلى جزيرة معزولة في بحر الدول الممانعة ومن خلفها الجبّار الإيراني.
لا شك في أن أحلام اليمين المسيحي الطائر المراهن على غرب واهن مغرور، هي أحلام يقظة تكمن خطورتها في إضاعة الوقت واستنزاف الساحة واللعب على أوتار عواطف مسيحيي لبنان الذي لا خلاص له إلا بوضع جهوده في خدمة نصرة القضايا العربية في وجه الهمجية الصهيونية الشرسة والذود عن حياض الوطن عبر التصدي للأطماع التلمودية به، والعمل من أجل استمرار قوة سوريا، لأن قوة لبنان وقوة المسيحيين في لبنان من قوة سوريا بلد الخمسة ملايين مسيحي. وليعد رموز اليمين المسيحي بذاكرتهم إلى فترة ثمانينيات القرن الماضي، لعلّهم يعودون إلى رشدهم بتذكّرهم مدى مكر الغرب لهم إبّان تلك الحقبة من الزمن.
ألم يعمد الممثل الأميركي آنذاك رونالد ريغان، وبالتحديد عام 1983، إلى إعطاء المنشطات الشمشونية للرئيس أمين الجميّل، وتوعَّدَ الأخير دمشق بقصفها؟ ماذا كانت النتيجة؟ النتيجة كانت ليالي دامسة جهنمية على المناطق الشرقية. أما الشام فقد سهرت ليلها حتى الصباح على صوت الفنان صباح فخري وقدوده الحلبية. ألا تذكرون الـ«نيوجيرسي»، تلك المدمّرة البحرية العملاقة التي رست قبالة شواطئ بيروت والمتن وراهنتم عليها؟ ماذا كانت نتيجة رهاناتكم؟ لم تكن النتيجة سوى خذلانها لكم ومفاعيلها لم تكن أقوى من مفعول طرّاد بحري عسكري بسيط بقليل، فبصقتها مياه بحر بيروت.
إن العبرة التي يجب أن يأخذها رموز اليمين المسيحي اليوم بعدما خيّب الأميركي أملهم في الأمس القريب: فلنتوقف عن رهاناتنا على الغرب، فما من شيء يأتي من الغرب ويسرّ القلب، وفي عالم السياسة يصحّ القول: «الدير القريب يشفي». لذا المطلوب من أحزاب اليمين المسيحي الإدراك بعد المخاضات العسيرة التي مرّ بها الوطن أن فتور العلاقة مع سوريا خطأ، وأن العدائية وخاصة بعد إنهاء وصايتها على لبنان، خطر كبير وخطيئة كبرى. أما التذرّع بأن سوريا تتدخل في الشؤون السياسية الداخلية في لبنان، فهو عذر أقبح من ذنوب، والصحيح أن في لبنان مناصرين للسياسة السورية، وهذا عائد إلى زمن ما قبل تولي الرئيس الراحل حافظ الأسد زمام الأمور في سوريا، أي إلى زمن أديب الشيشكلي وشكري القوّتلي ونور الدين الأتاسي وحسني الزعيم. أما حالياً فيجدر بأحزاب اليمين عدم التعامي عن واقع فرض نفسه بجدارة ويقول إن سوريا أضحت اليوم محجّةً لمبعوثي الغرب التوّاق لمحاورتها بعد تعثراته القوية في أفغانستان والعراق، وبعد فشل سياساته في لبنان وفلسطين والتي باتت حطاماً على أيدي المقاومين البواسل. أما هواجس تلك الأحزاب من «الوسواس البعبع» «شَيْعَنَة» لبنان أو تحويله إلى ولاية فقيه فهي غير مبررة ومجرد أوهام من نسج الخيال. ولنسلّم جدلاً بأن حزب الله لديه مثل هذه النوايا، فهو حتماً سيفشل لأن كل حلفائه في تكتل الثامن من آذار سيرفضون كل شكل من أشكل الدولة الدينية. فالمنطق السليم يقر بأن الجسم اللبناني لا تستطيع معدته هضم تلك المشاريع التوتاليتارية الأوتوقراطية، فهو جسم تتحكم به وتسيّره تعددية الأطياف والمشارب والأحزاب. فعلى أحزاب اليمين المسيحي الاتعاظ من تجارب الماضي الأليم المرير عبر استيعاب نقطة أساسية هي أن لبنان بجبله ومرقد عنزته، جزء لا يتجزأ من الوطن العربي ولا يمكنه العيش بمنأى عنه وعن قضاياه وبمعزل عن النضال من أجل استرجاع حقوقه المغتصبة. أما العيش في «علبة كبريت» فلن يجلب إلا المزيد والمزيد من القوقعة الثقافية والعزلة الفكرية والعصبيات المناطقية الفئوية.