بين حفظ ماء الوجه بين من يعيشون ويعتاشون منهم، وحفظ «خطّ الرجعة» إلى الوطن، احتار مصريّو الضاحية في ما يجب أن يقولوه عن رأيهم في التوتّر الذي يشوب علاقة نظامهم بحزب الله. وهم، إذ يعتقدون ببراءة الحزب من التحضير لأيّة أعمال إرهابية في بلدهم أو «نشر التشيّع»، فإنّهم لا يستطيعون توجيه الانتقاد إلى حكومة بلادهم ولو كانت على خطأ، فمصر «هي أمنا»، وإليها بالطبع، المآل
راجانا حمية
يجلس الشاب الأسمر أمام مدخل البناية التي يعمل فيها في منطقة الجاموس. تقترب منه الفتاة قليلاً، تناديه بالاسم الذي كان صديقه في المبنى المقابل قد قال لها إنه اسمه. يسألها بحذر: «عاوزة إيه من وليد؟» يقصد نفسه. تقول له إنّها تريد أن تسأله إن كان قد تأثر كمصري يعمل في الضاحية الجنوبية، بالعلاقة المتوتّرة أخيراً بين حزب الله والحكومة المصرية المثابرة على شن حملات ضد الحزب منذ خطاب السيد حسن نصر الله خلال عدوان غزة، الذي أدان فيه الموقف الرسمي المصري بإغلاق معبر رفح، فيما كانت إسرائيل تهجم على المدنيين والعزّل من الناحية الأخرى. «بس انا مش مصري» يجيبها الشاب بارتباك، من دون أن ينتبه للكنته الواضحة ولو تكلم «باللبناني». وبسرعة البديهة ذاتها التي يشتهر بها أولاد المحروسة، أدرك أنه لم يفلح في إخفاء هويته، ما دفعه إلى تغيير جوابه «طب يا ستّي، مصري، وحقول، بس ما تحطيش إسمي إلا لو كنت عاوزة تكمشيني للاستخبارات». ومن دون أن تعيد الفتاة سؤالها يبادرها برد بدا جاهزاً.. منذ بدء التوترات ربما: «ما يحصل لن يؤثر علينا كمصريين في لبنان، لأننا نؤيد الحزب بكل ما يقوم به، ثمّ إنّه لم يرتكب خطأً بمساعدة الفلسطينيين ولو كان من أرض مصر، لأنه بكل بساطة قام بالواجب الذي لم تقم به سلطاتنا». لم يكد ينهي كلامه، حتى أعاد التفكير في جملته الأخيرة عن «سلطاتنا»، فصحّح قائلاً «زي ما تقولي إنه حزب الله والنظام (المصري) ساعدوا الفلسطينيين مع بعض، فالنظام قام بنص دور».
هل كان الشاب يقول هذا الكلام لأنه ليس على أرضه؟ أم أنه مقتنع ويريد \ حفظ خطّ الرجعة إلى مصر وإبقاء الوفاق مع محيطه اللبناني الذي يعيش ويعتاش منه؟ قد يكون هذا جواب «وليد»، ولكن ليس جواب الآخرين، فإخفاء الهوية الذي حرص عليه، لم يكن نهج مواطنه محمد علي. فهذا الرجل لم يكتفِ باسمه الأول فقط، بل فصل هويّته كاملة «أني محمّد حسين أحمد علي من القاهرة». ابن القاهرة لم يجد سبباً لإخفاء الهوية، فلا حاجة له إلى خط الرجعة إلى مصر. انتقل نهائياً إلى لبنان وتزوّجّ وأسّس عائلة من ثلاثة أطفال، ومؤمن بأنّ ما يجري اليوم مجرد «هرطقة إعلامية، فما يتخذه النظام هو إجراء روتيني حفاظاً على الأمن، وما قام به حزب الله مجرّد إجراء طبيعي لمساعدة الشعب الفلسطيني». تحاول أن تتثبّت من حقيقة موقفه، فتسأله: لكن، هل هو عادي فعلاً ما قام به حزب الله؟ يخرج الرجل عن طوره ليجيب «من الآخر، مصر ما عملتش حاجة للشعب الفلسطيني، كان لازم يعمل الحزب كده، هو ما يستاهلش التحقيق ده، وزي ما قال أحد اصدقائي مرة: الجرايد عندنا بتخاطب الطبقة اللي ما تحت الوسط، اللي بتحقد بس».
محمّد علي الذي كشف عن اسمه «الرباعي» لن يكون أكثر جرأة من ضيا شمس الدين. يعرف هذا الشاب جيداً أن عودته حتمية إلى مصر في يوم من الأيام، ولكنه لن «يسكت عن الحقّ» كما قال. هو «لا مع السيّد ولا مع مبارك، بس الحق بيقول أنه السيد ما غلطش، خلّي مبارك يخف شوية». وعندما يسأله صديقه التروي قليلاً على أساس «ليك رجوع يا خويا لعند مبارك»، يبادره بالقول «كلها موتة وحدة، وما فيش غيرها».
الصديق الذي كان واقفاً إلى جانبه يطالبه بالتروي، وقد بدا أكثر دبلوماسيّة من ضيا. فهو يرى أنّه من الأفضل «تتفضّ المسألة بالسياسة (تُحل)، صحيح أنّ حزب الله لم يرتكب خطأ في مساعدة الشعب الفلسطيني، إلا أنّ ما تقوم به سلطتنا هو إجراء عادي يدخل في إطار الحفاظ على الأمن والسيادة لا أكثر ولا أقل».
يسهل على معظم أبناء الجالية المصرية تبرئة حزب الله من التهم الموجّهة إليه، ولكن يصعب أو أنّه يستحيل عليهم اتّهام حكومتهم. فهناك عودة حتميّة الى الوطن، وبالتأكيد «أننا نريد العودة إلى أهلنا لا إلى المعتقلات».
لكن، مقابل كلّ هذا «الشدّ» إلى جانب الحزب، ثمّة من لم يجد لإقامته في لبنان مبرّراً للتحايل على الحقيقة وتبرئة الحزب ولو بالكلام. ففي النهاية هم هنا في لبنان لوقت ولكن «مصر هي أمّي»، كما يشير العامل المصري في إحدى محطات الوقود إبراهيم السيد. فبحسب الأنباء التي وردته من أصحابه في القاهرة أن «أصحاب المطاعم التابعين لحزب الله هناك يعملون على نشر التشيّع، كما أنّهم يحضرون لعمليات إرهابيّة على أرض مصر». ولذلك لا يجد سبيلاً سوى «الشد على أيدي سلطاتنا اللي عاملة على كشف المخطط، وإن كان حزب الله يريد ذلك، فمن حقنا أن نحمي سيادتنا باتّخاذ الإجراءات اللازمة تجاه هؤلاء العناصر». لكن، ماذا لو ثبُت العكس؟ يجيب السيّد باللجهة الحاسمة نفسها «كانت بانت الحقيقة، على كلّ لو الحزب ما عملهاش، ما افتكرش انه السلطة حتزعلو، حتعتذر».
رأي آخر لا يقلّ حسماً عما قاله إبراهيم السيد، ولكنّه أكثر دبلوماسيّة منه. إبراهيم الذي اكتفى بذكر اسمه الأوّل «علشان متجوّز جديد، ملناش في شغل الاستخبارات»، يرى أن ما تقوم به السلطات المصرية «ليسّ إلا ردّّ فعل على اتّهامات السيد حسن نصر الله لمصر أثناء حرب غزّة»، وأنه من الطبيعي أن يدافع النظام عن نفسه. أكان ردّ فعلٍ أم لم يكن، أأخطأت مصر أم لم تخطئ، ثمّة فئة لا بأس بها من المصريين في لبنان، وتحديداً في الضاحية الجنوبية، تنتظر أن «تتفضّ الخلافات» لكي تستطيع أن تأكل عيش بسلام. تسأله السؤال الحارق: هل يخافون من ردود فعل عليهم إذا صعّدت الحكومة المصرية حملتها؟ يأتيك الجواب مطمئناً: لسنا خائفين. ولو أن بعضهم يستدرك بالقول «لكن لو كبرت، مين عارف؟ العلم عند ربنا».