معتصم حمادة *لست أدري ما إذا كان العقل السياسي الإسرائيلي يتوقع، وهو يوافق على اتفاق أوسلو، أن تصبح الحالة الفلسطينية، تحت سقف هذا الاتفاق، على ما هي عليه الآن. ولست أدري ما إذا كان العقل السياسي الإسرائيلي، يتوقع، وهو يصدّق اتفاق أوسلو، وقيام سلطة إدارة ذاتية فلسطينية في الضفة والقطاع، أن قيام مثل هذه السلطة سيدفع بالنضال الفلسطيني نحو وجهة جديدة، بحيث يتحول الصراع من فلسطيني ـــ إسرائيلي، إلى فلسطيني ـــ فلسطيني، وبحيث تُشغل القوى الفلسطينية عن النضال ضد الاحتلال، في ترميم خلافاتها، وفي شؤون بناء النظام السياسي الفلسطيني (تحت الاحتلال) وفي الغوص في تعقيدات قانون الانتخابات، وتعقيدات العلاقة بين رئيس السلطة ورئيس حكومته، وحدود صلاحية كل منها.
إنّ مناسبة هذا الكلام هي نتائج الحوارات الفلسطينية التي انتهت إليها جولات القاهرة الثلاث الأخيرة (26/2/2009) ـــ (10ـ 19/3/2009) (2/4/2009) والتي لم تفلح في معالجة قضايا الخلاف، ولم تنجح في وضع حد لحالة الانقسام القائم. ولقد أوضحت هذه الجولات أن الأمور السياسية الجدّية كانت غائبة عن طاولة الحوار، وأن القضايا التي حضرت بقوة هي تلك المتعلقة بواقع السلطة ومؤسساتها وكيفية إعادة توحيدها، في تنازع مكشوف بين حركتي «فتح» و«حماس»، أكد، بما لا لبس فيه، أن الصراع يدور في حقيقته على السلطة لا على البرامج السياسية أو على بناء استراتيجية فلسطينية لمجابهة استحقاقات المرحلة القادمة.
لقد كان الصراع على السلطة شديد الوضوح. عُلّقت الحوارات في النقاط التالية: تأليف الحكومة. قانون الانتخابات وموعد إجرائها. مرجعية الأجهزة الأمنية، وكيفية إعادة توحيدها. ولقد تأكد مجدداً هذا الأمر حين عجز الطرفان الرئيسيان في الخلاف، (فتح وحماس) عن التحرك خارج مواقفهما المتعنتة، في 2/4/2009 مما أدى إلى رفع جلسة الحوار إلى 26/4/2009 تهرباً من إعلان الفشل. قد يُقال في معرض التعليق على هذا، إن الصراع يدور حول سلطة وهمية. في هذا السياق نقول إن السلطة قد تبدو وهمية في بعض اللحظات، كأن يجري توقيف وزير على حاجز إسرائيلي بطريقة مذلّة، وكأن تمنع سلطات الاحتلال بعض الوزراء والنواب من التنقّل ما بين الضفة والقطاع، أو قد تعتقل بعضهم. لكن هذا لا يلخّص السلطة كلها ولا يلغي أن هذه السلطة، المسماة وهمية، تحمل في ثناياها لأصحابها امتيازات ومصالح فردية وجماعية، وتراكم مكاسب وتبني آليات في العلاقات الاجتماعية الفلسطينية، بحيث تصبح تراكيبها أساساً لحياة سياسية جديدة، تتصارع بعض القوى لتؤدّي فيها الدور الرئيسي، ولتهيمن على القسم الأكبر من المصالح فيها. فضلاً عن ذلك فإن آليات بناء السلطة وما ولّدته من مصالح، رسم علاقات جديدة بين بعض القوى السياسية وقواعدها الشعبية، تقوم على مبدأ تقديم الخدمات والمصالح المنفعية الضيقة لا على مبدأ الانحياز السياسي أو على خلفيات برنامجية. قبل قيام السلطة الفلسطينية، ولدت بعد عام 1969 في أروقة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها ونمت وترعرعت بيروقراطية فلسطينية، بدأت تبني لنفسها مصالح شخصية وفئوية، ذات طابع معنوي ومادي، مستفيدة من نمو الحالة الفلسطينية تحت ظلال بندقية المقاومة وتضحيات المقاتلين الفقراء في الأغوار والجولان وجنوب لبنان، وفي الضفة الفلسطينية وقطاع غزة. ولقد حاولت هذه البيروقراطية، التي انتشرت في مؤسسات منظمة التحرير كالنار في الهشيم، أن تتماهى مع مثيلاتها العربيات، وأن تقيم تحالفات، ليس على خلفيات سياسية على الدوام، بل وأحياناً كثيرة بما يضمن لها مصالحها الفئوية. وقد عمدت هذه البيروقراطية إلى لجم الحركة السياسية الفلسطينية في الشتات، بحيث لا تتجاوز السقف العربي الرسمي، ولا تقف منه موقف النقيض، بل كثيراً ما وفرت للنظام العربي الرسمي شهادات حسن سلوك، وبراءة ذمة أمام جمهورها من خلال علاقاته الإيجابية مع المقاومة (عبر البيروقراطية الفلسطينية إياها) ودعمه لها؛ وخاصة بعد طفرة البترودولار في منتصف السبعينات.
كذلك عمدت هذه البيروقراطية إلى لجم الحركة الشعبية تحت الاحتلال، حين كانت تتدخل لتعدّل نداءات الانتفاضة الأولى، بما لا يتعارض مع سياسات البيروقراطية القيادية في المنظمة وتكتيكاتها وعلاقاتها العربية وطموحاتها السياسية المحدودة بحدود مصالحها الفئوية. أكدت ذلك تجربة الانزلاق نحو اتفاق أوسلو، الذي مثّل انقلاباً، من فوق، على البرنامج الوطني الفلسطيني، وعلى الانتفاضة، لمصلحة تسوية هزيلة، لم توفّر للشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه، لكنها وفرت لبيروقراطية المنظمة أرضاً تقيم عليها سلطتها (وهو الأمر الذي كان ينقصها ضمن رؤيتها السياسية المحدودة)، كذلك وفّر لها المزيد من المكاسب، عبر تدفق أموال الجهات المانحة إلى صندوق السلطة الفلسطينية حتى لو كان ثمن ذلك لجم الانتفاضة وإجهاضها، وترويض المقاومة المسلحة وتدجينها، وتطويق الحركة الوطنية، فصائل وحركة شعبية، بقيود أوسلو والتزاماته. ومع قيام السلطة الفلسطينية اتسعت صفوف البيروقراطية على رأس الهرم السياسي الفلسطيني واتسعت مصالحها، وارتبطت، بشكل أو بآخر، بعلاقة جدلية مع الاحتلال والتعاون معه، وأعيدت صياغة العديد من القيم الاجتماعية والأخلاقية الموروثة من عهد الكفاح المسلح والمقاومة في الشتات والانتفاضة في الداخل، وجرى الترويج لفكرة استراحة المحارب، كما جرى تزوير عنوان المرحلة الجديدة على أنها مرحلة بناء الدولة، وكأن الاحتلال بات قاب قوسين أو أدنى من الزوال.
مثل هذه البيروقراطية اعتادت منذ نهاية الستينات أن تؤدّي دور السلطة، إن على رأس الهرم السياسي في منظمة التحرير أو على رأس سلطة الحكم الذاتي في الضفة والقطاع. وهي لم تعش يوماً ما في صفوف المعارضة، بل هي لا تستطيع أن تعيش في صفوف المعارضة، لأنها بنت آليات عملها وحياتها اليومية على قاعدة الاستفادة من موقعها في السلطة. ونعتقد أن من أمضى نحو 40 عاماً في السلطة دون منازع، سيعيش حالة من الاغتراب وافتقاد التوازن إن هو انتقل بغتة إلى المعارضة. وهذا ما أصاب حركة «فتح» بالتحديد حين خسرت الانتخابات التشريعية عام 2006 في مواجهة «حماس». وقد انقسمت «فتح» آنذاك إلى تيارين:
ــ الأول المستفيد من موقعه في رئاسة السلطة، وإداراتها وأجهزتها الملحقة بمؤسسة الرئاسة، رأى أنه من المعيب مشاركة «حماس» في السلطة، وبنى حساباته على أن معركة طرد الحركة الإسلامية من موقعها الجديد هذا (الذي اغتصبته من فتح عبر صندوق الاقتراع!) آتية سريعاً. في مراهنة على فشل الحركة الإسلامية في إدارة الشؤن الحكومية في السلطة الفلسطينية.
ــ أما التيار الثاني، الذي استمرأ موقعه في المجلس التشريعي وفي الحكومات الفلسطينية المتعاقبة (9 حكومات ترأستها فتح واستأثرت بها) فلم يجد حرجاً في مشاركة «حماس» في السلطة ولو من موقع الشريك الثاني. أما باقي القضية فمعروف، إذ تحولت هذه الشراكة (في حكومة هنيّة الثانية) إلى منازعات انتهت إلى ما انتهت إليه في 14/6/2007، باهتزازاتها الارتدادية التي ما زالت الحالة الفلسطينية تعيش تحت وطأتها.
على الضفة الأخرى، نشأت حركة سياسية فتية، بنت مواقفها على الشعارات، وحاذرت على الدوام أن يكون لها برنامجها السياسي الواضح والصريح. استندت إلى تراث سياسي إسلامي بألوانه المتباينة على مر العصور الماضية. تغرف منه لتبرر مواقفها وشعاراتها في سياسة رجراجة وبهلوانية، تنتقل بها من النقيض إلى النقيض، دون أي حرج، ودون الاعتراف بالتناقضات التي تحكم مواقفها. وبذلك تنتقل من رفضها المفاوضات من حيث المبدأ، نظراً لأن فلسطين وقف إسلامي لا يجوز التفاوض حوله، إلى الطعن في قدرة محمود عباس على التفاوض وتأمين شروط التسوية التي يرغب فيها الغرب، وترشّح نفسها بديلاً له في تصريحات معلنة وفي رسائل تحملها إلى زوار القطاع من رجالات الكونغرس والبرلمان الأوروبي وغيرهم. وتنتقل من موقع تمسّكها بالمقاومة خياراً وحيداً إلى القبول بتهدئة مؤقتة، ثم هدنة مطولة، ثم هدنة مديدة قد تمتد إلى أربعين عاماً. ولها في كل موقف مستند شرعي، لا يرقى إلى صحته الشك، لكنه مسلوخ عن سياقه السياسي، ومعلق مصلوباً على واقع فلسطيني تعمل من خلاله لتتبوّأ السلطة في منافسة لـ «فتح» وحلفائها، تحكمها في ذلك رؤية لتسوية غامضة، وشعارات تراهن على التحرير الكامل على يد الثورة الإسلامية التي سوف تجتاح العالم يوماً ما. وإلى حين أن تقوم هذه الثورة الإسلامية الموعودة، تندفع «حماس» في بناء سلطتها في قطاع غزة، ضمن شروط تعرف هي جيداً حجم الضريبة السياسية التي تحملها في طياتها. وتدعمها في ذلك إخوانية دولية، ترى في تجربة «حماس» بداية مشرقة لزمن إخواني يفترض أن يسود العالم العربي، إما من موقع الاستفراد بالسلطة أو من موقع الشراكة في الأنظمة القائمة، وضمن حدود تحاذر ألا تغضب الولايات المتحدة، لذلك لا يتردد أحد قادة الإخوان في زيارة السفير الأميركي في منزله في القاهرة، ليشرح له حقيقة أهداف «حماس» مروجاً لها بديلاً لسلطة أبو مازن وسلطة «فتح»، في التسوية الأميركية للصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي.
والإقامة في السلطة من شأنها أن تبني لأصحابها مصالح فئوية على المستوى الشخصي والجماعي، ومصالح سياسية، لا تستقيم بعدها إلا من خلال تمديد الإقامة في ربوع السلطة، أكانت هشة، أم متماسكة، حقيقية أم وهمية. تتغنى إلى حين بالديموقراطية التي قادتها إلى قمة السلطة في مؤسستين من ثلاث مؤسّسات هما المجلس التشريعي والحكومة... لكنها، مع اقتراب استحقاق الانتخابات الجديدة، تتراجع عن هذا التغني، لترفع شعارها التالي: «الديموقراطية لمرة واحدة وأخيرة»، فبقاؤها في السلطة دائم لأنها هي الحكم الرشيد، الذي لم تتوافر له الفرصة ليعبر عن نفسه حتى الآن. وبالتالي يصبح من حقه، وفقاً لهذا القول، أن يجدد لنفسه شرعية سيادته على المؤسسة، وتسلطه عليها، إن لم يكن لمصلحة الحفاظ على الحكم الرشيد، فعلى الأقل لمصلحة صون المقاومة التي تحولت إلى شرطي ورجل استخبارات وسجون وزنازين. ولعل هذا ما يفسّر لماذا فشل الطرفان، «فتح» و«حماس»، في الاتفاق على الحكومة، وعلى قانون الانتخابات وعلى موعد إجرائها. لأن السلطة الفلسطينية، على هشاشتها، باتت هدفاً بذاته، ينظر إليها كل طرف على أنها في الوقت نفسه سرير لا يتسع لجسدين. رحم الله محمود درويش.
* عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين