بيسان طيالأنباء الآتية من بغداد تقول إن مقهى الشهبندر أُعيد افتتاحه، قالوا ذلك قبل نحو شهرين، ثم تضاربت الأنباء، افتتح، لم يفتتح، أُقفل، لا لم يقفل ولكن أبوابه لا تُفتح كل يوم.
شيء ما لن يعيد الحياة إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال الأميركي للعراق. شيء هو الاحتلال نفسه، والصراع الدموي الذي أغرق البلاد فيه.
لكن الخبر بذاته، والأنباء المتضاربة تعيدنا إلى الوراء، كأنه الأمس... ست سنوات أو أكثر مرت بلمح البصر.
شباط 2003، الأسبوع الأخير تحديداً. بغداد غارقة في القلق في أسئلة التوقيت عن الهجوم الأول، عن اليوم الأول للحرب. كنا هناك بالآلاف، أقصد آلاف الصحافيين، من مختلف الجنسيات، كانت اللغات تتقاطع في بغداد، في فنادقها تحديداً.
المشهد في البلاد أعادنا إلى الثمانينيات من القرن الماضي، كأن الزمن توقف في المدينة، أوقفه عنوة الحصار المفروض على البلاد. وكنا نبحث عن أمكنتنا، عن مكان نجتمع فيه، المركز الإعلامي لن يأتينا بجديد، اللف في المدينة ساعات يتعبنا، يحزننا بالأحرى، كنا ندرك أننا نودع شيئاً ما، نسترجع «أرض السواد» رواية عبد الرحمن منيف التي صدرت قبل احتلال العراق بفترة قصيرة، ونشعر بأننا نعيش آخر فصول الرواية.
المهم أن أمكنة الاستراحة واللقاء وتلقط الأخبار كانت قليلة. مقهى الشهبندر كان أحدها. هو هناك في شارع المتنبي، الشارع الذي طبعته وكالات الأنباء في ذاكرة جيلنا، شارع المكتبات، يفترش مثقفون وقراء أرضه ليبعوا كتبهم ويسددوا بثمنها رمقهم ورمق أطفالهم.
إلى المقهى كنا نذهب لنحفر في ذاكرتنا الصور الأخيرة من شارع الثقافة، كنا ندرك أنه سيتغير ولكننا لم نعرف أبداً حجم المأساة التي ستحل به، وبالبلاد كلها.
المهم أن المقهى كان كخلية نحل، ترتفع فيه أصوات، تتعدد أشكال الحاضرين وألوانهم، مثقفون عراقيون، ومراسلون من مختلف أنحاء العالم، مراسلو الوكالات والصحف، ومراسلو التلفزيونات والفضائيات، كانت الكاميرا والمعدات المرتبطة بها تكثر في المكان، كان المقهى يعكس حيوية مناقضة لإيقاع الحياة القلق، للخوف الذي دب الرتابة في شوارع المدينة.
هل قلت نستقي الأخبار؟ كانت الشائعات هي الغالبة، بعضهم يقول فضائية حصلت على الحق الحصري لبث الحرب، بغداد ستفقد الأكل والشراب، لذلك يكدس المراسلون وجبات «ضد التلف»، في قصر صدام، في الطابق الثالث تحت الأرض تتكدس الصواريخ المضادة لأعتى الأسلحة...
كلام، كلام، كلام...
كنا نسمع الشائعات، نتابع بعض التحليلات، ونغرق في الصورة الضبابية للمدينة، ومن حولنا تُقرع كؤوس الشاي والعصير والقهوة، نلمح مسناً يدور من حولنا، يوزع مهمات العمل، لم نحفظ وجهه كثيراً، لم نحفظ الوجوه الأخرى التي كانت تشرف على خدمتنا. إلا أنها، الرائحة، رائحة في المكان تسللت إلّي، كلما سمعت اسمه تذكرتها.
في الخبر المتداول عن إعادة افتتاح المقهى، مقابلة مع صاحبه محمد الخشالي (77 عاماً)، هو إذاً المسن الذي كان حاضراً هناك، ويقول إنه يريد إعادة افتتاحه، رغم التفجير الذي تعرّض له، ورغم أنه فقد أبناءه الخمسة في ذلك الحادث. هل هي رائحة الخوف التي حفظتها، شيء من الخوف كان يتسلل من المدينة إلى المقهى...
ثمة قدر يلاحق المقهى، هو الذي تأسس عام 1917 سيكون شاهداً على كل الاحتلالات والتحولات السياسية في بغداد.