نهلة الشهالتبدو فرنسا في طليعة التحرك الاحتجاجي الأوروبي، ولكنه لا يقتصر عليها بالطبع، وإن كانت أشكاله وحدّته تتفاوت في سواها، وإن كانت بعض التحركات، كما حدث في بريطانيا مثلاً، نحَتْ إلى إلقاء اللائمة على العمال المهاجرين، في صعود معهود للغرائز المعادية لـ«الغرباء» التي تمثّل عادة مهد الأفكار والتيارات الفاشية.
ففي فرنسا، توافقت كل النقابات على دعوة موحدة للتظاهر يوم الأول من أيار القادم، وهو أمر لم يحدث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. يأتي ذلك بعد إضرابين عامّين ناجحين في الأشهر الثلاثة الماضية، وبعد موجة من الاحتجاجات في مواقع عمل متنوّعة، منها مصانع وجامعات ومستشفيات، لم تهدأ بعد. بل وقعت حتى اليوم عشر حوادث احتجاز لمديرين عامّين في مصانع تهدّد بصرف عمالها. الاحتجاز دام عدة ساعات أو أياماً، وهو فعل يمتلك صدىً إعلامياً شديداً، وعنفاً رمزياً، سريعاً ما يتحول إلى مشكلة سياسية. وفي استطلاعات الرأي، يؤيد نصف الفرنسيين الأسلوب، ويرون أنّه مشروع. أما المضحك، فهو ردّّ فعل رابطة أرباب العمل والحكومة، اللتين أدانتا الاحتجازات، واتهمتا «جهات خارجية» بإثارتها؟؟ ــ الجواب كما يقولون هم أنفسهم هو «بعض النقابات والأحزاب». ولو!! إذا لم تقم هذه بهذا، فماذا تفعل، ولمَ هي موجودة؟ هذا الإدقاع الرثّ يسم إدارة الطبقة الحاكمة للموقف. وهو، مع سمات أخرى، من علامات الطبيعة العامة الشاملة للأزمة المنفجرة، لأنه يعبّر عن عجز تلك الطبقة عن الإحاطة بمعناها.
هل هي رياح ثورة، كما أكد منذ أيام رئيس الوزراء الفرنسي السابق، السيد دوفيلبان، ساعياً إلى إيقاظ حس الخطر لدى السياسيين من أقرانه، ولدى المديرين العامّين «الجشعين» ـــــ وهو وصف يستخدمه بالطبع الحريصون على النظام لا مناهضوه. وبالمناسبة، فهؤلاء لا يتركون مجالاً لتجنّب إطلاق النعوت المهينة عليهم، حتى من جانب أصدقائهم. هؤلاء حقاً قوم بلا حياء، يغادرون السفينة الغارقة بجيوب مليئة، إذ لا يرون أن ما جرى من كارثة كبرى تمسّ حياة كل البشر ينبغي أن يعنيهم في شيء، بينما مسؤوليتهم عن إدارة ذلك النظام المنفجر عظيمة: المدير العام للبنك الملكي الاسكتلندي المفلس، والمعوّم بواسطة المال العام، حصل أخيراً على مليون يورو بدل تقاعد... في العام!! وهذه البلادة، هي الأخرى من العلامات إياها.
ما ينبغي تسجيله بإصرار هو أن إغلاق العديد من الشركات لمواقع عمل لا يقع بسبب عجز في استمرار الإنتاج، بل وفق تعيين محدّد واختياري لمنطق الربح: في ظل تقلّصه، تقوم «خطة الإنقاذ» على حماية الحصة الأكبر من العائدات وحفظها لأصحاب رأس المال وفق ترتيب يراعي أهميتهم، ويصل فتاته إلى المساهمين الصغار حين يوجدون. ليس في الأمر أي عدل، كما قد يظن البعض ممن يقدّسون الملكية الخاصة. فاستعادة رأس المال الموظّف من جانب أصحابه جرت منذ زمن بعيد، علاوة على أرباحه، إن كان لا بد من قول ذلك، وهو ما لا يردّده ـــــ بعد ـــــ المحتجّون، مخافة توجيه تهمة نية السطو على الأغنياء إليهم!! هل يُبقي هذا الإحجام أيّ طابع ثوري للتحركات الاحتجاجية؟
ثم إن تلك التحركات، بما فيها أكثرها عناداً، لا تهدف في نهاية المطاف ـــــ أو لا تنجح ـــــ إلّا في التفاوض على شروط أفضل بقليل لمن تحلّ عليهم الكارثة: تعويض أكبر للمصروفين من العمل، وعود بعدم صرف المزيد من الشغيلة (غالباً ما تُنقض)، ثم الموافقة على دفع أجور أيام الإضراب... هل هذه نتائج ثورية؟
ما المخيف إذاً؟ حالة الغضب المكبوت بالتأكيد. ثم تطوّر استخدام التقنيات الرائجة تعويضاً عن ضعف التنظيم (الذي كان يطمئن أرباب العمل)، حيث يقوم اليوم الفايسبوك والـ sms بالإخبار وبتأمين المستلزمات العملية للتحركات. بدايات «التربيط» ـــــ مجرد بدايات ـــــ بين مختلف القطاعات والمقاربات، إذ ظهر مثلاً «نداء النداءات»، وجمع تواقيع عشرات آلاف المعنيين في عريضة مشتركة ضد تفكيك نظام الخدمات العامة كالتعليم والصحة والنقل إلخ... الدعوة إلى مسيرة مشتركة في أيار لكل المطرودين من العمل، تذكّر فكرتها بمسيرة الجوع الشهيرة في بريطانيا عام 1936، وقد تتحوّل إلى عرض قوة لا يستهان به. الاتجاه نحو أشكال من التحرك تلامس العصيان المدني، السلمي تعريفاً، إلا أنه انتقال إلى صعيد أعلى من التحركات المطلبية والقطاعية المباشرة، وهو يفتح المجال للتربيط إيّاه، لكن وخصوصاً لانخراط الشبيبة التي لم تبدأ بعد الحياة العملية فيه، وهي التي تعدّ بحق، وفي ظل مرض النظام المهيمن ثم انفجار أزمته، الجيل ـــــ الضحية...
كل هذا لا يصنع ثورة. ولكن السمة الثورية المؤكدة بطريقة لا تحتمل اللبس هي التالية: تدفع الأزمة القائمة إلى إعادة نظر، ليس في ظروف الحياة اليومية والعملية الجارية للناس، بل في نمط الحياة القائم، أي في مجموعة التصورات والقيم الناظمة. ماذا غداً؟