سلامة كيلةإذاً، له الرحمة وللرأسمالية طول البقاء. وخصوصاً أن النخب اليسارية تلك كانت قد وصلت إلى مأزق يوضح أنها في مسار يفضي إلى التلاشي، كما كانت على شفير التعب، وبالتالي في حاجة ماسة إلى أن «تقطف ثمار نضالها»، أو كانت ناقمة على تجارب حسبت على الاشتراكية وما هي باشتراكية بل رأسمالية حتى النخاع (ربما استفادت من الكينزية ومن الاشتراكية الديموقراطية كما استفادت من التجربة السوفياتية). ولقد انتهت كل الامتيازات التي يقدمها الاتحاد السوفياتي الصديق (أو الرفيق)، وبالتالي لمَ لا يجري التحول لقطف ثمار الليبرالية؟
المشكلة تكمن الآن في أن الرأسمالية في أزمة. وإذا كان اليسار يكرر طويلاً الحديث عن «الأزمة العامة للرأسمالية»، فقد ملّ هذا الموال من طوله، وخصوصاً أنه لم يسقط الرأسمالية. ولهذا بات مقتنعاً بأن المرحلة الرأسمالية طويلة، الأمر الذي يفرض عليه أن «يتكيّف» معها. لكن الأزمة قائمة الآن، وإذا كانت المسألة لا تتعلق بـ«انهيار الرأسمالية» كما شهدنا مع انهيار الاشتراكية (وهذا ما يدور في خلَد هؤلاء اليساريين السابقين)، فإن اللافت هو أن شبح ماركس عاد يحوم على العالم. وكأن ارتباطاً وثيقاً يقوم بين أزمة الرأسمالية وماركس. وهذا يشير إلى أن تأزّم الرأسمالية يعيد طرح الماركسية أكثر من أي شيء آخر، حيث إنها هي التي حللت طبيعة الرأسمالية، وأشارت إلى أزمتها المتوالية نتيجة فيض الإنتاج الذي هو لازمة الرأسمالية. ولهذا أعادت الأزمة الجديدة ماركس إلى واجهة الصحف والمجلات، كما أعادت كتبه إلى الواجهة. وهو الأمر الذي يعني أن كل تفكير في فهم أزمة الرأسمالية يجب أن يوصل إلى ماركس. وهو الأمر الذي يوضح أن الماركسية هي القادرة على فهم الرأسمالية ومشكلاتها، وأنها البديل الحقيقي في فهمها للرأسمالية وبتصورها لنظام بديل يتجاوزها.
يمكن القول إن تأزمات البشر تدفعهم إلى الماركسية، لأنهم يطمحون إلى تجاوز الوضع الذي يعيشون فيه الآن، ويعانون ويلاته، ليس في المراكز الإمبريالية فقط، بل أساساً في الأمم المخلّفة، في الأطراف التي باتت رأسمالية من دون أن تتأسس رأسماليتها على ما أسس الرأسمالية في المراكز، أي الصناعة. حيث تعممت علاقات إنتاج رأسمالية هي نتاج التبعية للمراكز تلك. وباتت تعاني مشكلات الرأسمالية ربما أكثر من الشعوب في المراكز نتيجة النهب المفرط الذي تمارسه رأسماليات المراكز بالترافق مع نهب الرأسماليات المحلية، كذلك نتيجة تهميش قوى الإنتاج التي وحدها تراكم الفائض، الذي نتج من فعل السيطرة الإمبريالية، فأبقى التخلف المحلي، كما أبقى البنى المفكّكة.
لهذا بات الميل إلى قراءة «رأس المال» منتشراً في الفترة الأخيرة. وربما كان هذا الميل أقدم قليلاً من الأزمة الراهنة، حيث لم تجلب أوهام العولمة سوى الحروب، واتساع الإفقار والتهميش والبطالة. لقد عاد شبح الشيوعية لأن الصراع الطبقي عاد واضحاً مع تأزم الرأسمالية، وبعد الإفقار والتهميش اللذين أحدثتهما في العالم. وربما كذلك لأن انهيار الاشتراكية، الذي أوجد اهتزاز قناعات قطاع كبير، قد أوضح بعد عقدين أن التجربة لم تكن هباءً، وأن روسيا تنهض من جديد وإن في إهاب رأسمالي، والصين باتت تنافس بقوة. فبغض النظر عما آلت إليه الاشتراكية أصبحت تلك الأمم التي شهدت التجربة الاشتراكية أمماً صناعية وحديثة، وقادرة على التعامل المتكافئ في عالم الهيمنة الإمبريالية. بمعنى أنّ التجربة حققت ما هو مهم لأمم كانت في الهامش، وجعلتها أمماً صناعية حديثة.
وهنا يجب أن يعود التفكير في قيمة الماركسية، كما في قيمة التجربة الاشتراكية. حيث إن الماركسية هي القادرة على تنظيم القوى الطبقية المفقّرة والمهمّشة من أجل فرض بديل يفتح أفق التطور الاقتصادي (وهنا الصناعي خصوصاً) والمجتمعي الشامل، وينقل المجتمعات المتخلّفة إلى أول طريق الحضارة، وهي الخطوة الضرورية والأساسية من أجل الوصول إلى الاشتراكية، وقد يحقق هذه الخطوة في إطار الاشتراكية، ليصبح السؤال هو: كيف تؤسس لأن تكون هذه الخطوة مدخلاً لتطور اشتراكي أعلى لا أن يفضي إلى الانهيار؟
وربما كان هذا هو السؤال الأهم اليوم ونحن نعيد البحث في مواجهة الرأسمالية، وتأسيس بديل مجتمعي آخر. هو بالتأكيد بديل «ما بعد الرأسمالية».
لقد تفككت فكرة أن الرأسمالية هي «نهاية التاريخ»، ليثبت أنه ليس للتاريخ نهاية، وأنه يحوي من التناقضات ما يجعله في صيرورة مستمرة. هنا نقول: لقد عاد شبح ماركس، لكن ماركس الحقيقي.

* كاتب عربي