حمل ألوانه من مدينة إلى أخرى، ليستقر أخيراً في الشارقة. ابن اللاذقيّة والرقّة لاحق أحلامه بعناد حتّى إيطاليا، حيث درس النقد وتاريخ الفنّ. المدخّن الشّره، ذو اللحية البيضاء والأناقة الخاصة، كان يبيع مجلّاته المستعملة، طفلاً، لدخول السينما. وهو اليوم تشكيلي عالمي، لوحاته مسكونة بأجساد تحلم بأجنحة العودة

زياد عبدالله
كان على التشكيلي السوري طلال معلا أن يعبر كل تلك المدن، ويستعيدها ألواناً وذاكرة وحنيناً. أزرق بحر اللاذقية وبانياس، خضرة البادية الممتزجة بأصفر يترامى في أرجاء الرقّة، ومن ثمّ صحراء الإمارات. جاء الأخيرة من البندقية متخلياً عن دراسته، وعن غاليري «بادوفا» الخاصة به، ليؤسس «بينالي الشارقة» ومن ثمّ «بينالي الخط العربي»، والكثير من المشاريع الفنية التي يخرج بها متنقلاً من مدينة إلى أخرى.
يحيط طلال معلا نفسه بالعزلة هذه الأيام. نبحث عنه منذ سنتين في مقهى «الأونديتشي» في الشارقة ولا نعثر عليه. حسناً، لن نداهمه في «المركز العربي للفنون» الذي يديره، فنضبطه متلبساً بملء مفكّرته السحرية بالرسوم والقصاصات، أو غارقاً في بحر من الألوان واللوحات. من الأفضل أن نلتقيه في «الأونديتشي»، حيث ينهمك بالرسم على المناديل الموضوعة على الطاولة. وحين نبادله الحديث تختلط الكلمات التي يسمعها بالرسوم، لنجد أنّ كلمةً مثّلت محور النقاش، تتوسط رسومه.
يدخّن بشراهة، خارقاً حظراً للتدخين طاول كلّ شيء في الإمارات. «عدت إلى السجائر بعد سبع سنوات من الإقلاع عنها»، يقول. كان التدخين على أشدّه على طاولة جمعتنا معه في الفسحة الخارجية من المقهى. التدخين ممنوع في الداخل، ومع السؤال عن الوجوه التي يعكف على رسمها قال في الحال: «ما زلت مصراً عليها، أنّها تعبير عن الاحتجاج».
لعلّ ذلك قاده إلى استحضار أم حنا، جارته العمياء التي كان يرافقها، ولما يتجاوز الخامسة، إلى الكنيسة في بانياس. كانت هي تصلّي، وهو يتأمل الأيقونات. لعلّها تلك الوجوه الآن. «الأيقونة فن سوري» يقول، ثمّ يشرح: «موقع «دورا أوربس» شمال شرق سوريا هو البرزخ الذي انتقلت فيه الأيقونة من الفن السوري إلى البيزنطي».
حين نسأله عن نزعته المزمنة إلى الاحتجاج، نجد أنفسنا عنوة في صلب الموضوع. عالم يتابعه طلال معلا بحذافيره، يرصد النكوص الذي استبد بمشاريع أسّس لها بكثير من الأوهام. «بينالي الشارقة» الذي كان يطمح لجعله معبر الفنان العربي إلى العالم، أصبح فيه هذا الفنان ضيفاً طارئاً. «كل المشاريع انقلبت رأساً على عقب، مع ما قيل عنه «موت الفن» والبداية بذاكرة جديدة».
ليس طلال ضد التطور وما بعد الحداثة، بل إنه خاض بعض التجارب في هذا السياق... لكنّه ضد أن يقاطع «بينالي الشارقة» كلّ ما ينتج في المنطقة العربية، ليستبدله بـ«المستورد الذي لا يدلّ على بنية أي مجتمع عربي، فيتحوّل البينالي إلى فندق خمس نجوم، يحلّ فيه الضيوف ثم يمضون. كنت أطمح لتأسيس بيت يُقدَّم فيه الفن العربي بشكل صحيح».
التشكيلي السوري الذي لعب دوراً محوريّاً في تحويل سجن الخيام الشهير، في الجنوب اللبناني بعد تحريره، إلى متحف يتضمّن أعمال 45 فناناً عربياً وأجنبياً عام 2003، يجد التخريب في العالم العربي على أشده، وخصوصاً أنّ الاستقطاب مقتصر على أسماء معينة مفتوحة على مراكز ممولة خارجياً، ومغلقة في وجه المجتمع. «التطوّر في جانب منه حوّل الكاتب إلى Copywriter والرسام إلى Designer».
التخريب يحضر إسرائيلياً بامتياز مع عدوان تموز 2006، وأعمال معلا ومن كان معه من فنانين في سجن الخيام أمست ركاماً بعد تسع غارات استهدفت المتحف، لمحو آثار الجرائم الإسرائيليّة السابقة بجريمة جديدة. حينها، ناشد معلا «الـيونسكو» التدخّل، ويستسرسل في استعادة تلك التجربة: «كنا نرسم ورائحة البشر وعذاباتهم ما زالت في الزنزانات».
كان اختيار معلا أن يكون رساماً وناقداً، أقرب إلى رحلة عكس التيّار. كان كلّ ما حوله يقف ضد أحلامه، بدءاً من كونه أكبر إخوته الخمسة وأخواته الثلاث، وصولاً إلى دراسته الأدب العربي في اللاذقية والعمل في «حوض الفرات» في الرقّة رساماً طوبوغرافياً. في الوقت نفسه، أوقف والده عن عمله في وزارة الصحة لانتمائه إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، لكنّ ذلك كلّه لم يمنع طلال من الذهاب إلى إيطاليا ودراسة النقد وتاريخ الفن في جامعة «سيانا».
أول ما قام به والده لدى انتقال أسرته إلى الرقة، كان استخراج بطاقة له في المركز الثقافي هناك ليغرف من المكتبة ما يعينه على تكوين نفسه، كما أدمن قصص الأطفال المصورة عبر اشتراكه بمكتبة صالح شاهر. «كان أبي يدفع ثمن ثماني مجلات شهرياً، أقرأها وأبيع الأعداد القديمة، لأتمكّن من دخول السينما. كان ثمن المجلة فرنكين، بينما تذكرة السينما باثني عشر فرنكاً». بعدها تمكّن من اقتناء الكتب، وشجّع الوالد أبناءه على إنشاء مكتباتهم الخاصة. «كنا نصنعها من صناديق البندورة الخشبية، وعندما صرت أمتلك ثروة مهمّة من الكتب وضعت لها قفلاً».
قصص كثيرة تحضر مع طلال، وحبه الأزلي لزوجته سعاد يعود إلى الصف الثالث الابتدائي، حين أحبّها وقد كانت تعيش مع جدتها في الرقة. «كانت تتقن التركية وتتكلم العربية معي بالفصحى». نسأله عن أخيه الرسام أحمد معلا، وإن كان هذا الأخير قد تأثر به في صغره، فينفي ذلك ويقول إنّه فاجأه بـ«مئة عمل في معرض مدرسي ولم يكن أحمد قد تجاوز الثانية عشرة. كان يرسم كما لو أنه في عصر النهضة». لكنه يتذكر أنه استدان 150 ليرة لأحمد، كي يذهب إلى دمشق من أجل امتحان القبول في «كلية الفنون الجميلة»، لكنّ الأخ الأصغر أضاع الفلوس في محطة الباصات في الرقة، وعاد إليه ليستدين له المبلغ نفسه مرة أخرى.
ينتقل طلال برشاقة من لهجة سورية إلى أخرى، ويروي من النوادر والنكات الكثير. علامات فارقة تدمغه، كلحيته الناصعة البياض وأناقته الخاصة، وتلك الخواتم ذات الأحجار الملونة، وكل ما يسكنه الآن حنين صارخ يقوده إلى إجراءات لونية صارمة. ابنه فراس يعيش في براغ، وابنته يارا عادت إلى سوريا، وهو وسعاد يعيشان مع قطتهما في الشارقة. يمكن الألوان أن تقفز مع كل خطوة يخطوها، وبرفقته الآن وجوه عاشقة، شاردة، مخذولة، متآكلة، والقائمة تطول على أكثر من مئتي عمل ارتكبها من دون أن يضيّع لوناً زيتياً واحداً. يرسم جسداً من دون ذراعين، ثم يتركهما على حدة. شيء ما يقول لنا لا حاجة لهما ما لم يصيرا جناحين، ما لم تتحوّل اللوحة إلى جسد آخر يتقن العودة إلى سوريا.


5 تواريخ

1952
الولادة في اللاذقية (سوريا)

1968
أوّل معرض له في «المركز الثقافي العربي» في مدينة الرقة

1975
معرض بعنوان «روايتان عن الحرب والسلم» في «متحف حلب الوطني»

1991
انتقل إلى دولة الإمارات وأسس «بينالي الشارقة» بعد سنتين

2009
معرض فردي في سترومبرغ/ ألمانيا