strong>رانيا المصري *سمعتُ نوعَين من التعليقات لدى عودتي من فنزويلا حيث شاركتُ، كمراقبة دولية، في الاستفتاء الفنزويلي الذي جرى في 15 شباط/فبراير، وأقرّ فيه التعديل الدستوري لإلغاء كل الحدود القصوى لتجديد ولايات المسؤولين المنتخبين، ما يسمح للرئيس هوغو شافيز بالترشح من جديد لانتخابات عام 2012. فمن أصدقائي وزملائي الذين يدعمون شافيز، أو لا يعارضون سياسته بالضرورة، كان التعليق بأنه جرى التلاعب بالانتخابات؛ كانت مزوّرة. أما أفراد عائلتي، لا سيما المغتربين المقيمين في فنزويلا، فقالوا كلام مَن خاب أمله بـ«الشعب الجاهل لأنه صوّت لدهماوي جاهل».
أتت ردة فعلي الخاصة، كواحدة من الـ92 مراقباً دولياً، مختلفة تماماً: فكم سيكون رائعاً أن تشبه انتخاباتنا هنا، في شهر حزيران/ يونيو المقبل، الاستفتاء الفنزويلي الذي تميّز بطبيعته الفعالة والشفافة والعادلة وبنسبة المشاركة المرتفعة فيه.
المراقبون الدوليون في فنزويلا
وصلتُ إلى كراكاس مع معظم المراقبين الدوليين المدعوين قبل الاستفتاء بثلاثة أيام. وفي الطريق إلى الفندق، سمعنا ورأينا شارعاً اصطبغ بالأحمر؛ فمؤيدو الـ«نعم» للتعديل قد تجمّعوا من مختلف أرجاء البلاد في العاصمة في اليوم الأخير من حملة الاستفتاء (في اليوم الأسبق، كان مؤيّدو الـ«لا» للتعديل قد عبّروا عن معارضتهم). وعندما اعتذر مضيفنا عن الازدحام ملقياً اللوم على المسيرة، هززت كتفيّ استهجاناً؛ لقد كانت زحمة السير خفيفة مقارنة بيوم نموذجي في بيروت.
كانت مفاجأتي الأولى عندما وصلنا إلى الفندق وسط كاراكاس هي رؤية ملصق في المصعد يدعو إلى تقديم هبات إلى فلسطين، إذ كُتب عليه «فلسطين بحاجة إليكم».
أما مفاجأتي الثانية، التي شاركني فيها أيضاً المراقبون الدوليون الآخرون، فكانت عندما قابلنا ممثلات عن جهازَين من أجهزة السلطة الخمسة: رئيسة القضاة في المحكمة العليا لويزا إستيلا موراليس لامونو؛ ورئيسة المجلس الأخلاقي الجمهوري، غابرييلا راميريز؛ والمدّعية العامة، لويزا أورتيغا دياز؛ والمراقبة العامة للنفقات، كلودوسبالدو روسيان أوزكاتيغي، فيما أدارت الحوار رئيسة السلطة الوطنية للانتخابات، تيبيازي لوسينا.
كلهنّ نساء، المندوبات وقائدات السلطات الوطنية الفنزويلية هؤلاء. كان الرجل الوحيد في المجموعة مدير الاحتفالات، وهو الذي عرّف عنهن جميعاً.
شرحت كل ممثلة مستويات عمليات التدقيق والمشاركة في هذا الاستفتاء: أكثر من 35000 مركز اقتراع تقريباً، وحوالى 120000 جندي لضمان الأمن، وما يقارب 400 مراقب، محلي ودولي، و475 قاضياً لمراقبة عملية التصويت ولتقديم حلول آنية لأي مشكلة تطرأ، وأكثر من 450 محامياً، فيما يكون 600 محقق إضافي في الخدمة من أجل معالجة حالات منع التصويت أو التزوير أو المشاكل الأخرى المحتملة.
عندما سألنا عن ادّعاءات زعمت أن ممثلاً من السلطة الوطنية للانتخابات، وهو الجهاز الحكومي المسؤول عن الانتخابات، التقى أحد أعضاء حملة الـ«نعم»، شرحت لوسينا أن اتصالات جرت مع كل المنظمات السياسية منذ انطلاق عمل السلطة الوطنية للانتخابات، وقالت «يستمر الاتصال مع معسكرَي الـ«نعم» والـ«لا» لضمان مناقشة كل المواضيع التي تقلقهما وحلّها». وتابعت الكلام مضيفة: «نجري عمليات تدقيق لآلات التصويت بمشاركة تقنيين من الأحزاب السياسية المشاركة لضمان العملية. كما أننا زدنا عمليات التدقيق لكي تشمل نصف عدد حجيرات الاقتراع. إنّ السلطة الوطنية للانتخابات تضمن الاستفتاء عبر التدقيق قبل كل مراحل العملية وفي خلالها، انطلاقاً من إنشاء الآلات وإنتاجها، ومروراً بالحبر والتدقيق بعد العملية الانتخابية ومستويات الأمن، وكل ذلك مع المنظمات السياسية المشاركة وبمراجعة البيانات المختلفة للآلات. ومنذ سنتين، أجرينا عملية تدقيق لشبكة النقل على أربع مراحل. هذا ويقوم تقنيون رفيعو المستوى بالمزيد من عمليات التدقيق قبل الاستفتاء بأسبوعين، وقبله بيومين، ويمكنهم أن يرفعوا المستويات الأمنية إذا دعت الحاجة لذلك. وتخضع الشبكة للتدقيق ثانية يوم الاثنين، أي بعد انقضاء يوم على الاستفتاء. بتعبير آخر، يرسل كل معسكر سياسي ممثلين عنه منذ بداية العملية الانتخابية، ابتداءً من إنشاء آلات التصويت وحتى فرز الأصوات؛ وبالإضافة إلى ذلك، يخضع نصف حجيرات التصويت للتدقيق للتأكد من أن قسائم الاقتراع تتطابق مع بيانات آلات التصويت.
في تلك الليلة، قامت مجموعة صغيرة منا بمغامرة لاكتشاف الحياة الليلية في كاراكاس، لكن الوقت لم يكن ملائماً لذلك. فقبل الانتخابات أو الاستفتاء في فنزويلا، تفرض الحكومة 48 ساعة تحظر فيها شرب الخمرة؛ فلا يستطيع أي متجر أو مطعم أو ناد أن يبيع الكحول في هذه المدة، ولا بعد إعلان نتائج التصويت مباشرة. وبالتالي، وحدها المطاعم كانت مفتوحة.
قبل أسابيع من الاقتراع، كانت السلطة الوطنية للانتخابات تعلّم الشعب الطريقة الصحيحة للتصويت، عبر الراديو والتلفزيون ولوحات الإعلانات.
عند الثالثة من فجر يوم التصويت، وكان يوم أحد، أيقظني ضجيج قوي يشبه دويّ انفجار. حاولت العودة إلى النوم، ولكن موسيقى متنقلة أيقظتني ثانية عند الرابعة صباحاً. واستمرت الموسيقى، التي انبعثت من مكبّر عالي الصوت حملته شاحنة بيك آب كانت تجوب أرجاء المدينة، حتى الساعة 8 صباحاً. وقد نجحت في تحقيق مهمتها: إيقاظ الناس ليقترعوا.
عندما ذهبنا لنشهد على بداية عملية التصويت في أحد مراكز الاقتراع في وسط كاراكاس حوالى الساعة 5 صباحاً، رأينا أشخاصاً ينتظرون أدوارهم للإدلاء بأصواتهم، علماً بأن مراكز الاقتراع تفتح رسمياً عند الساعة 6 صباحاً. ففي تلك الساعة، يقوم مسؤولون انتخابيون (وهم مواطنون يُختارون عشوائياً ويُدرّبون)، وشهود من المعسكرَين السياسيَّين، وجنود من الجيش يحملون أسلحة خفيفة بفتح الصناديق وآلات التصويت ليتأكدوا من أنه لم يُتلاعب بأي شيء. ومن دون حضور ممثلين عن المعسكرَين السياسيَّين الـ«نعم» والـ«لا»، لا يمكن فتح الصناديق ولا بدء التدقيق.
انقسمنا نحن المراقبين الدوليين إلى ستّة فرق، وذهب كل فريق إلى ولاية مختلفة من أجل مراقبة الانتخابات في 6 مراكز اقتراع. لاحظنا جميعاً الوضع ذاته: هدوء وارتياح وسرية في التصويت، فلا إكراه ولا مشاكل تُذكر. الشكوى الوحيدة التي سمعناها هي أن الآلة كانت تعطي أصواتاً ملغاة. ويحدث ذلك عندما يقوم المصوّت بالتصويت بأسرع مما يجب، ولا يمكن إعادة التصويت عندما يُلغى الصوت. ولكن هذه المشكلة حُلَّت عند منتصف العصر تقريباً حين قُدّمت للمقترعين تعليمات أوضح من الأولى.
كان الإجراء يتم على الشكل الآتي: (1) يقابل المقترعون هويتهم باللائحة عند باب مركز الاقتراع، فيحددون أيّ حجيرة يجب أن يصوّتوا فيها بحسب الرقمَين الأخيرَين الواردَين على بطاقة الهوية الوطنية؛ (2) بحضور الجنود، يتحقّق مسؤولون انتخابيون من هوياتهم عند باب مركز الاقتراع فيما يدخلون؛ (3) تقوم آلة مسح بصمات الأصابع، عندما تتوافر، بالتحقق من هوية المقترعين وتطبع ما يؤكّد صحتها، وهو أمر ممكن بما أن بصمات الأصابع تمثّل جزءاً من تحديد الهوية الوطنية؛ (4) من ثم يذهب المقترعون إلى حجيرات الاقتراع المخصصة لهم. يقف مسؤول انتخابي عند الباب ويحرص على إدخال شخص واحد كل مرة؛ (5) من جديد، يبرز المقترع هويته الوطنية لمسؤول انتخابي آخر، ويبصم ويوقّع اسمه/اسمها؛ (6) وبعد الحصول على تعليمات واضحة عن طريقة استخدام آلة التصويت، يختار المقترع «نعم» أو «لا»، ويحصل على قسيمة مطبوعة تشير إلى الصوت لا إلى اسم المصوّت. (7) ومن ثم يتوجب عليه أو عليها وضع القسيمة في صندوق من الكرتون. إذا أخذ المصوّت القسيمة أو مزقها، يمكن أن يُغرَّم ويُسجن. (8) ولتقديم ضمانات إضافية بأن المصوّتين يدلون بأصواتهم مرة واحدة فقط، يغطّس المصوّت خنصره في حبر أرجواني لا يمكن نزعه بسهولة. (خضع حبر الإصبع إلى اختبار غسله بالتقصير والخل والصابون والغازولين وغيرها من مساحيق التنظيف الممكنة، تحت إشراف مدير مدرسة الكيمياء في الجامعة المركزية في فنزويلا)؛ (9) وأخيراً، يأخذ المقترع هويته الوطنية ويرحل. وعلى الرغم من وجود جنود عديدين في كل مركز اقتراع، إلا أن الجندي في حجيرة الاقتراع يكون أعزل، لكي لا يخيف المقترعين. ويتناوب الجنود الذين هم في الخدمة ليتسنى لهم الوقت للتصويت في مراكز الاقتراع المخصصة لكل واحد منهم.
وفي خلال هذه العملية كلها، يحضر شهود من المعسكرَين السياسيَّين لمراقبة أي مشاكل أو اضطرابات تحدث.
تقفل مراكز الاقتراع عند الساعة السادسة مساءً. ومن بعدها، يُدقّق بقسائم التصويت بمقابلتها ببيانات الآلات في نصف عدد حجيرات الاقتراع في كل المراكز، ويخضع ذلك لمراقبة دقيقة من الشهود والجنود. وعلى الرغم من قول الخبراء الانتخابيين إنّ نسبة 3% هي أكثر من كافية، لم يكتفِ بها المجلس الفنزويلي، إذ دُقّق في بيانات 54.3% من الآلات التي اختيرت اعتباطياً، عبر مقارنة القسائم الورقية بالبيانات الإلكترونية. بالإضافة إلى ذلك، تستخدم فنزويلا نظام شيفرة مفتوح المصدر في التصويت الإلكتروني، ولذلك يستطيع أيّ كان أن يراجع الشيفرة التي يمتلكها العموم وتتم من خلالها جدولة الأصوات. (بالمقابل، تستخدم الولايات المتحدة التصويت الإلكتروني الذي يعمل من خلال شيفرة برنامج مملوك، وهو بالتالي برنامج تضبطه الشركات وتبلغ نسبة عمليات التدقيق فيه 1% فقط في نصف مراكز الاقتراع. وغالباً ما يسمع مسؤولون في السلطة الوطنية للانتخابات في فنزويلا تعليقاً مفاده أنه لو تسلّمت فنزويلا إدارة الانتخابات في الولايات المتحدة، لما كان جورج و. بوش الابن قد فاز بالانتخابات ضد آل غور، إذ كان سيتعذر التزوير).
في المساء، عدنا لرؤية نهاية الانتخابات في مركز الاقتراع نفسه وسط المدينة. وكان فرز الأصوات قد تم في إحدى حجيرات الاقتراع فيه: 134 نعم و253 لا، و12 صوتاً ملغىً، من أصل 500 مقترع مسجّل.
وكانت تحذيرات قد وُجِّهت إلى وسائل الإعلام الخاصة والعامة معاً من أنها ستواجه عقوبات إذا سرّبت نتائج مبكرة عن الانتخابات أو نشرت دعايات حتى عبر المواقع الإلكترونية، ومع ذلك بدأت الشائعات تُروَّج عن النتائج قبل إعلانها رسمياً. وعند الساعة 9 و32 دقيقة، أصدرت السلطة الوطنية للانتخابات أول نشرة رسمية عما وصفته بـ«اليوم المثالي». فقد أُحصي 94.2% من الأصوات، وبقي 2200 مركز اقتراع. صوّتت نسبة 54.36% بنعم و45.63% بلا من أصل 11466000 صوت، وأُلغي حوالى 200000 صوت، فيما أدلى ما يقارب 68% من المقترعين المسجّلين بأصواتهم. وهكذا تمت الموافقة على التعديل الدستوري لإلغاء الحد الأقصى، الذي كان عبارة عن ولايتين، في كل المناصب التي يُنتخب شاغلها.
من المؤتمر الصحافي، سمعنا دويّ الألعاب النارية، فقد بدأت الاحتفالات، وتجمعت حول قصر ميرا فلوريس واستمرت ساعات: موسيقى السلسا، والرقص، وبيع الأطعمة والقمصان، والمزيد من الألعاب النارية، والكثير من المعانقات والاحتفالات. ووسط كل ذلك، في الجهة المقابلة من القصر، كان ثلاثة فنزويليين، من جدّ لبناني، يلوّحون بالعلم اللبناني.
في اليوم التالي، نقلت صحيفة المعارضة الرئيسية أن الاستفتاء نجح في إعطاء دليل على تراجع شعبية شافيز، إذ تجاهلت الاستفتاء الذي جرى في كانون الأول/ ديسمبر 2007 وخسرت فيه الحكومة، وفضّلت التوقف عند الانتخابات السابقة حيث كان هامش النصر بالنسبة إلى شافيز والحزب الاشتراكي الموحد لفنزويلا أكبر بكثير. والأهم أنه إلى جانب هذه المقالة الرئيسة، برزت مقالة سلّطت الضوء على طارق وليم صعب (نعم، فنزويلي من أصل لبناني)، وهو حاكم ولاية أنزويتيغي وعضو بارز في الحزب الحاكم، الحزب الاشتراكي الموحد لفنزويلا. فقد اتُّهم بأنه مزّق ورقة الاقتراع بعدما اعتبر تصويته ملغىً، ثم طلب من المسؤولين في مركز الاقتراع أن يسمحوا له بالتصويت مجدداً، وهو ما فعله لاحقاً. ويمكن أن يؤدي تمزيق ورقة الاقتراع إلى الحكم على المذنب بالسجن لمدة سنتين إلى ثلاث سنوات، ودفع غرامات كبيرة وحرمانه من شغل منصب عام. فمن بين كل الأعمال، ومن بين كل المشاكل، سألتُ نفسي لماذا يجب أن يكون الشخص الذي يُوجِّه إليه الادعاء الأساسي تهمة التصويت بشكل غير قانوني من أصل لبناني؟
تعليقات عامّة
قد تكون الحكمة من وراء إلغاء الحد الأقصى لمدة تولي المناصب العامة موضوعاً قابلاً للنقاش، وقد تجادل فيه أفراد من مختلف الأطياف السياسية، فأيّد البعض إلغاء هذا الحد الأقصى فيما عارضه آخرون. ولكن لا يمكن المجادلة بشأن قوة هذه الانتخابات. فقد امتلكت المعارضة حرية الاحتجاج وتنظيم وجهات نظرها وبثها. وما لا يقل عنه أهمية هو أن عملية التصويت لم تكن بعيدة عن متناول هذه المعارضة التي قدرت على التأثير فيها تماماً كما الحزب الحاكم. بالإضافة إلى ذلك، فاق عدد عمليات التدقيق التي أجريت ومستوياتها الحد الأدنى بأشواط، وحُققت ضمانة شبه تامة بتقديم نتائج نزيهة.
لقد تعزّز هذا النموذج من سيطرة الشعب على عملية اتخاذ القرار. فكما ورد في الدستور الفنزويلي (دستور 1998 الجديد)، وشدّد عليه هذا التعديل، يملك الشعب حق إقالة المسؤولين العامين، بمن فيهم رئيسه، من مناصبهم قبل نهاية ولاياتهم من خلال فقرات شرطية تُمكّن من إقالة موظف حكومي بتصويت شعبي.
عدتُ إلى لبنان، ولم تؤثّر فيّ عملية الاقتراع بحد ذاتها فحسب، بل تقسيم السلطات أيضاً (البرلمان والسلطة القضائية والسلطة الانتخابية مثلاً كلها مستقلة مؤسساتياً)، والتمثيل القوي للنساء في المناصب العامة، كما أثرت فيّ جوهرياً الروح الحماسية التي تتقد أملاً، المنبعثة من المدينة.
كم يجب أن نتعلّم.

(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)
* باحثة وناشطة لبنانيّة