بعدما احتضن أقدم زراعات الهلال الخصيب، كالقمح البري، يعاني العراق اليوم من العجز الغذائي، ويعتمد على استيراد غذائه وعلى المساعدات. واقع يستمرّ في ظل احتلال يعيق اقتصاده ويكرّس عجز شعبه عن السيطرة على موارده
إعداد: رنا حايك
توصل العراق في إحدى مراحله التاريخية إلى تحقيق اكتفاء غذائي ذاتي، وإلى احتلال المرتبة الأولى في قائمة البلدان المصدّرة للبلح، إذ تصل نسبة أراضيه الصالحة للزراعة إلى حوالى 27%، نصفها مخصص للزراعات المطرية، بينما يخصص نصفها الآخر للزراعات المروية. وقد مثّلت محاصيل القمح والشعير والحمص منتجاته الغذائية الأساسية، تقليدياً.
قبل أن تشن الولايات المتحدة حربها على العراق، وصلت المحاصيل السنوية من الحبوب إلى 1.4 مليون طن، بينما بلغت كمية المحاصيل الجذورية كالبطاطا والشمندر 400 ألف طن، والبقوليات 38 ألف طن. إلا أن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق ومن قبلها العقوبات التي فرضتها عليه بالاشتراك مع بريطانيا، قضت على القطاع الزراعي فيه، فتقلصت مساحة الأراضي المستفاد منها لتقتصر على نصف الأراضي الزراعية المروية، بينما أصبح نقص الغذاء وسوء التغذية عاملين أساسيين في حياة العراقيين.
وقد دأب المزارعون العراقيون، عبر آلاف السنين، على حفظ بذور زراعاتهم من عام إلى عام، وعلى تطويع أنواع الحبوب المحلية والخضار تماشياً مع الظروف الطبيعية والمناخية المحلية.
وبحسب إحصائيات منظمة الغذاء العالمية التابعة للأمم المتحدة، كان 97% من المزارعين العراقيين يحفظون بذورهم من موسم إلى آخر، أو يشترونها من أسواقهم المحلية حتى عام 2002. وقد حافظت أجيال متتالية من العراقيين، على تحقيق المعايير العالمية في قطاع البلاد الزراعي، بإنتاجها غذاءً ذا نوعية عالية وكميات فائضة، رغم الظروف المناخية الصعبة المتمثلة بالجفاف الحاد وشح الأمطار، وملوحة التربة. إلا أن العقوبات، والحرب من بعدها، قد أدّتا إلى تدمير قطاعه الزراعي. تدمير لم يكن آنياً، بل منهجياً، إذ إنه أدى إلى ضياع أنواع البذور التقليدية التي كان يرتكز عليها نجاح القطاع الزراعي العراقي، ودفع بالمزارعين إلى الاعتماد على البذور المستوردة.
في مقالة له على موقع «Global Research»، الإلكتروني، المتخصص في نشر أبحاث تتناول آثار العولمة، أشار الخبير غالي حسن إلى أن إحدى نتائج الغزو الأميركي كانت انتقال الملكية القانونية للموارد العراقية إلى يدي الولايات المتحدة والشركات المتعددة الجنسية.
فقد أجبر الاحتلال مزارعي العراق على شراء البذور المسجلة في قوائم براءات الاختراع العالمية، التي غالباً ما تكون معدلة جينياً من جانب شركات التكنولوجيا الحيوية الزراعية الأميركية كمانسانتو، «Monsanto» وسينجنتا، «Syngenta» لاستخدامها في زراعاتهم. بينما رهنت هذه الشركات بيع بذورها للمزارعين بتوقيعهم على «اتفاقية مستخدم التكنولوجيا» التي تمنعهم من حفظ البذور التي نشأوا على حفظها لآلاف السنين من موسم لآخر. بناءً عليه، يتحول مزارعو العراق شيئاً فشيئاً إلى منتجي زراعات معدة حصرياً للتصدير، ما يمثّل وصفة نموذجية لتكريس الجوع المحلي في العراق.
أما أكثر الفضائح الشائنة في ذلك السلوك، فهو أنه يتجاهل واقع أن الكثير من هذه الأنواع الجديدة من البذور قد طوّرت انطلاقاً من تقليد مزارعي العراق المتوارث في حفظ البذور، ويستخفّ بالمساهمات التي أضافها مزارعو العراق على مدى أجيال متعاقبة على تطوير المحاصيل المهمة كالقمح والشعير والبلح والبقوليات. مساهمات تعطي لهؤلاء المزارعين الحق الشرعي والوحيد لامتلاكها.
إلا أن قوانين الأمر الواقع السائدة حالياً تشرعن سرقة إرث طويل من الملكية الفكرية، ومصادرة حرية المزارعين العراقيين، وتدمير منظومة السيادة الغذائية العراقية.
وبحسب تقارير بعض الهيئات المتخصصة المستقلة، لا يزال العراق يمتلك الطاقة الكافية لإطعام شعبه، إلا أن الاحتلال، بدل أن يستغل هذه الطاقة ويطورّها، يعمد إلى تخطيط مستقبل العراق الغذائي والزراعي بشكل يخدم مصالح الشركات المتعددة الجنسية، ويقوّض قدرة العراق على ضمان أمنه الغذائي من خلال إعادة هندسة منظومته الزراعية وتوجيهها نحو تصدير المحاصيل في ظل اعتماد العراقيين على الغذاء المستورد. وهذه المقاربة ليست مستغربة على العلاقة المصلحية القائمة بين الحكومات الغربية وبعض وكالات التنمية كالبنك الدولي والشركات المتعددة الجنسية. فهذه الجهات تهدف جميعها إلى تعميم استخدام التكنولوجيا في الزراعة، وخصوصاً البذور المعدلة جينياً التي تنتجها الشركات العملاقة، وتقديمها حلاً وحيداً لمشكلة الغذاء العالمية. وليست هذه سوى إحدى وسائل السيطرة العالمية على الغذاء، ومن خلالها، السيطرة على شعوب العالم.