منى عباس فضل*ترى ما الذي سيفعله مجلس النواب البحريني بعد رفض مجلس الشورى تمرير مشروعه بقانون لتعديل بعض أحكام القانون المعنية بتنظيم معاشات التقاعد ومكافآته لموظّفي الحكومة وأيضاً «التقاعد المبكر الاختياري للمرأة»؟
الجواب يكمن في جعبة الكتلتين الإسلاميتين بمجلس النواب، وغالباً ما سيتجسّد جوابهم من خلال الضغط من جديد لإقرار مشروع القانون في حال انعقاد المجلس الوطني، ومن المحتمل أن تثمر جهودهم الحثيثة في سياق تسويات تحالفية تعدّ على نار هادئة تفرضها طبيعة الحراك السياسي وما تتعرض له الساحة المحلية من تموجات تخضع لتأثير المتغيرات الإقليمية. قبل الاسترسال في تشخيص الحالة، ثمة ما يستوجب إدراكه عن حقيقة التأويلات والتفسيرات المتعلقة بما يمكن وصفه بـ«فخ التقاعد المبكر الاختياري للبحرينيات»!
بداية، رفض مجلس الشورى المعين مشروع القانون جاء للمرة الثانية، بمعنى أن مجلس النواب المنتخب لم تتوقف وتيرة مطالبته واستمرارها، ذلك لأن الأمر يعود إلى طبيعة تكوين وبنية الكتل السياسية المسيطرة على البرلمان، وما تحمله من أبعاد أيديولوجية ذات صبغة دينية ومذهبية لها مواقفها المتشددة والمحافظة تجاه الأدوار المتعددة للمرأة في المجتمع. بالنسبة للتبريرات التي ساقها الرافضون من مجلس الشورى لمشروع القانون (وهم 21 عضواً مقابل 19 وافقوا، أي ما يقارب التعادل)، تتمحور حول رؤيتهم في أنّ المطالبة بقانون التقاعد المبكر للنساء جاءت على خلفية إزاحة النساء من سوق العمل وتوفير فرص عمل للعاطلين وخفض نسبة البطالة. وأضافوا أن إقراره سيحرمهن من فرص تقلد المناصب العليا ومواقع اتخاذ القرار القيادية، وبالتالي ستصبح أغلب تلك المناصب حكراً على الرجال، هذا إلى جانب الحرمان من مجالات تتكوّن من الخبرات المتراكمة، فضلاً عما ينطوي عليه من تهميش لدورهن في المجتمع ونظرة دونية لهن. وبعضهم برر رفض تمرير القانون لأنه تمييزي ويخل بمبدأ المساواة بين المواطنين، وفيه مخالفة دستورية للمادة (18) التي تنص على أنه «يتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس والأصل واللغة والدين والعقيدة». هذا من ناحية جبهة الرفض للقانون، لكن ماذا عن جبهة المطالبين به؟
المطالبون به يجدون أنه يستمد قوته من الأعراف والقيم السائدة في البحرين كبلد عربي وإسلامي، بل إن ضرورة المطالبة به تماهت عند بعضهم وانطلقت من نظرتهم لدورهم كمشرعين لجهة ترك مساحة أوسع للخيارات أمام فئة من النساء وعدم مصادرة حقها، فضلاً عن تطلعات شريحة كبيرة منهن ممن يرغبن بشدة في العودة إلى البيت مبكراً وتحمل مسؤولياته، ولعل أكثر المطالبات بذلك جاءت من المعلمات. في سياق هذا التوجه، قيل إن القانون اختياري ولا يجبر المرأة على التقاعد المبكر، بل يمنحها حق الخيار.
في هذا الصدد، يجوز القول إن الإشكالية لا تنحصر في تأويلات الموافقين وتبريرات الرافضين فقط، بقدر ما تكمن في حقيقة فاقعة، وهي أن السعي إلى إقرار القانون قد ولد من رحم حدة التشنج والتعصب التي تتميز بها عقلية الرفض المعلنة وغير المعلنة لحقوق المرأة عامة، والتي تضج بها خطابات الإسلام السياسي والتيارات المحافظة. وبالقدر نفسه أيضاً، تعود إلى الأطر والسياقات التي تطرح فيها القضايا الحقوقية للنساء، ومن يتولى حمل أجندتها والحديث عنها بدءاً من موضوع قانون الأحوال الشخصية، أو الجنسية، إلى التقاعد المبكر للنساء وغيرها. فغالباً ما تثار هذه الأطروحات في سياقات تتراوح بين محاور سجالات صراعية بين القوى السياسية والاجتماعية مع الأنظمة السياسية، أو مع تزامن طرح بنود من أجندات خارجية تركز على فرض المتغيرات السياسية والاجتماعية، مما يجعلها مثيرة للريبة، فتأتي نتائجها على حساب تحقيق أي تقدم تنموي للنساء. كما تتصاعد على أثرها الاتجاهات المناهضة لتمكينهن في شؤون المجتمع، وتتضح أيضاً ازدواجية المواقف بين القول والفعل، بل تخلق موقفاً سلبياً حتى لدى فئات عريضة من النساء تجاه ذواتهن وخياراتهن وأدوارهن في المجتمع.
لا ريب أن التربية التي تلقتها معظم الفتيات في مجتمعاتنا تهيئهن للوظائف البيتية وأولوياتها، بالرغم من حقيقة أن الداعين لإقرار «قانون التقاعد المبكر» هم بالأصل من فتح الأبواب في وجه المرأة لتتمكن من متابعة تعليمها، وما لبثوا الآن أن رفضوا النتائج المترتبة على التعليم من خروج المرأة للعمل واستمرار نشاطها في الفضاء العام، حتى وإن ظل ذلك الرفض وأسبابه مضمراً. فالبعض يريد أن يرسل فتياته إلى العمل لتحسين وضع الأسرة المعيشي والاستئثار بصورة مباشرة أو غير مباشرة بما تحصل عليه من أجر، بيد أنهم في نهاية الأمر هم من يحددون وقت اكتفائهن من العمل خارج المنزل وتشجيعهن على العودة إليه. لذا، بفعل هذه الدعوات، ترسخت لدى العديد من النساء النظرة المتدنية لأنفسهن، وهي بالمناسبة نظرة منتشرة في أنحاء الوطن العربي، والبحرين ليست استثناءً. وهذا التدني له مستويات ودرجات.
معلوم أن مشاركة النساء في سوق العمل مكوِّن أساسي في التنمية الاقتصادية، وهذا يجب ألا يغيب ولو للحظة عن بال المنظّرين والنوّاب المشرّعين الداعين إلى قصر فترة مشاركة المرأة في سوق العمل. ذلك لكون التنمية هدفاً رئيسياً من أهداف المجتمع، وانخفاض مشاركتها الاقتصادية يتسبب في كلفة مرتفعة على مستوى الاقتصاد الوطني، تؤدي إلى انخفاض مستوى رفاهية أفراد الأسرة، ومن ثم ارتفاع نسبة الإعالة والدعم الاقتصادي لها بسبب الاعتماد على نسبة منخفضة من المرتب التقاعدي، إلى جانب تدنّي دخل معيل الأسرة أصلاً، فيما مستويات التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة ومتطلباتها في زيادة مستمرة.
ترحيب فئات عريضة من النساء بسن هذا القانون هو ما يثير القلق، ويعبر عن حالة انسجامية وتصالحية مع الواقع السائد وثقافته، فضلاً عن ترسيخ فكرة الاعتماد على إعالة الزوج وبالتالي التبعية له، إضافة إلى تأكيد الهوية والمكانة المركزية للمرأة في محيط المنزل والأسرة الصغيرة، لا في محيط المجتمع الكبير.
استناداً إلى هذا التوجه، لا بدّ من إثارة بعض الأسئلة في سياق مجتمعي: كيف ستتحقق الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة البحرينية في ظل الدعوات لتقاعدها وعودتها مبكراً للبيت؟ إن صادف وجرت الموافقة على مشروع قانون التقاعد المبكر، باعتباره منجزاً لمطلب فئات عريضة من النساء، فكيف سيشاركن في العملية الإنتاجية للمجتمع؟ وما هي الضمانات الكفيلة بجذبهن إلى فضاءات الحيز العام للتعبير عن تطلعاتهن التي يفترض أن تصب في مصلحة التنمية المستدامة؟
* باحثة بحرينيّة