معتصم حمادةونفترض أن ما قاله عباس الآن، قطع عليه طريق العودة إلى المفاوضات مع إسرائيل، حتى لو لم تكن نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة على شاكلة ما كانت عليه.
فحتى لو فاز تحالف «كديما ـ العمل» (ليفني ـ باراك)، فإن هذا كان سيعني أنّ شيئاً لم يتغير على الضفة الأخرى من المفاوضات. فليفني، وبشهادة رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض أحمد قريع (أبو علاء)، وبشهادة تصريحاتها نفسها، اتخذت من المواضيع التفاوضية مواقف شديدة التطرف، بدءاً من رفضها تفكيك المستوطنات، وتفكيك جدار الفصل، أو الانسحاب من القدس وعودة اللاجئين، وصولاً إلى إعلان الرغبة في طرد الفلسطينيين داخل إسرائيل وضمهم إلى مناطق السلطة، بذريعة أن إعلان إسرائيل «وطناً قومياً لليهود»، يفترض إخلاءها من كل من هو عربي فلسطيني، وتهجيره نحو الدولة الفلسطينية (ذات الملامح الغامضة)، وباعتبارها هي أيضاً ـ بحسب زعم ليفني ـ «وطناً قومياً للفلسطينيين، كل الفلسطينيين»، من هم في الضفة والقطاع، وداخل إسرائيل، وفي القدس، وفي الشتات.
وبما أن الفوز تحقق لمصلحة تحالف «الليكود ـ إسرائيل بيتنا» (نتنياهو ـ ليبرمان)، فمن شبه المحسوم أنّ عنوان المرحلة المقبلة سيكون بالضرورة تصعيداً في العدوان الإسرائيلي عسكرياً، وفي التعنت سياسياً، وخاصة أن ما تطرحه ليفني من تهجير الفلسطينيين من إسرائيل إلى مناطق السلطة الفلسطينية ــ هو واحد من بنات أفكار ليبرمان ــ الذي يرى أن «الخطر الاستراتيجي» على إسرائيل لا يتمثل بـ «الإرهاب» الفلسطيني خارجها ـ كما يقول ـ بل بالفلسطينيين الذين يحملون جنسية إسرائيل، لذلك يدعو إلى ترحيلهم إلى مناطق السلطة أو أية مناطق أخرى يمكن أن يقيموا فيها.
وفي الحالتين، فإن هذا معناه أن الشروط التفاوضية، التي كانت سائدة في زمن حكومة أولمرت ـ ليفني ـ باراك، إما أنها ستبقى على ما هي عليه، وإما أنها سوف تزداد تعقيداً، الأمر الذي ينذر بأن المفاوضات، إن هي استؤنفت مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، لن تقدم إلى الفلسطينيين ما يستجيب للحد الأدنى من مطالب التيار الفلسطيني الأكثر استعداداً للتنازل، الذي يمثله الآن محمود عباس.
وجميع هذه المعطيات تعني أن عباس سوف يقف بين خيارين شديدي التعقيد:
الأول أن يعود إلى المفاوضات، بالشروط المعروفة، وبالنتائج المتوقعة، فيزداد الوضع التفاوضي الفلسطيني اهتراءً، ويتصاعد التوتر، ليس في العلاقة مع الجانب الفلسطيني بل داخل الحالة الفلسطينية نفسها وفي الاتجاهين:
ـ الاتجاه الأول داخل منظمة التحرير الفلسطينية، وبين فصائلها من جهة، وبين الرئيس عباس من جهة أخرى، وخاصة أن معظمها (إن لم يكن كلها) يطالب رئيس اللجنة التنفيذية بوقف هذه المفاوضات التي اصطلح فلسطينياً على وصفها بالعبثية.
ـ الاتجاه الثاني خارج المنطمة، حيث سيجد خصوم عباس والقائلون بانتهاء ولايته القانونية، في المفاوضات العقيمة مع إسرائيل، قضية دسمة تتيح لهم مواصلة التشكيك في صلاحيته كرئيس وأهليته كممثل للفلسطينيين في مواجهة الإسرائيليين.
الخيار الثاني أن يقاطع عباس المفاوضات، وأن تدخل القضية الفلسطينية حالة «اللاحرب واللاسلم». وهي لا تقل سوءاً عن الدخول في المفاوضات وفقاً للشروط السابقة، ولا سيّما أن رد الفعل على هذه الحالة قد يولد داخل معسكر عباس نفسه، أي من داخل طاقمه السياسي الذي تجمّع حوله انطلاقاً من تأييده للمفاوضات وتمسكه بها، وإدراكه أن تغيير هذا النهج معناه إما تغيير الطاقم، أو أن يضحي هذا الطاقم بالعديد من المكاسب الشخصية التي ولدت في سياق ولادة النظام السياسي الفلسطيني الحالي. كما من المتوقع أن يولد رد فعل معاكس على يد تيارات داخل «فتح» بالتحالف مع باقي الفصائل لتسخين الجو، إما للضغط على الإسرائيليين، لإقناعهم بتغيير قواعد اللعبة وأسس العملية التفاوضية، وإما لاعتماد المقاومة خياراً إضافياً إلى جانب خيار المفاوضات، بحيث يتناغم الخياران، وتتحول المقاومة إلى ورقة ضاغطة بيد المفاوض الفلسطيني، يردّ بها الضغوط الإسرائيلية، ويرد بها كذلك على مظاهر التعنت الإسرائيلي. إن هذا معناه أن خلطاً في الأوراق سوف تشهده الحالة الفلسطينية كما سوف تشهد اصطفافات جديدة، لا يقتصر أثرها على الوضع الفلسطيني الداخلي، بل كذلك على العلاقات الفلسطينية ــ العربية، والفلسطينية الإقليمية. أي باختصار، سوف نكون أمام مشهد فلسطيني جديد، تتغير فيه الكراسي والأفراد، من دون أن نستطيع منذ الآن أن نحدد حدود هذا التغيير، وأسماء من سيشملهم هذا التغيير.
في كل الأحوال، صدق من قال إن الحالة الفلسطينية لما بعد العدوان على القطاع، لن تكون هي نفسها لما قبله. وهذا جزء من الصورة الفلسطينية التي نتوقع أن يكون العدوان قد أسهم في إعادة رسمها. فأي خيار سوف يعتمد عباس، وعلى أية أسس سوف يرسو المشهد الفلسطيني المقبل؟ أسئلة كثيرة في البال، لا يمكن الإجابة عنها إجابة حازمة ونهائية، بانتظار التطورات اللاحقة.

* عضو اللجنة المركزية للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين