وائل عبد الفتاحيتحرّك المفاوض العربي في كل مكان نصف خطوة، ويكملها بنصف خطوة في الاتجاه العكسي. حماس وفتح في القاهرة تقتربان كل يوم من طريق مسدود، ثم تضغط مصر لتكسر الحائط وتمرّ فرصة جديدة. حماس تريد الاستفادة إلى أقصى حدّ من مكاسب حرب غزّة للتوازن مع الثقل التاريخي لفتح. وفتح تتمترس عند خطوط دلالها على الدول التي تحمل مفاتيح القضية (مصر وأميركا وإسرائيل).
حماس بعيدة عن المفاتيح، وكلما اقتربت نصف خطوة خافت من الضياع وفقدان موقعها في خندق المقاومة، فتعود مرة أخرى إلى خطابها المعتمد على لاءات الاعتراف بإسرائيل والمطالبة بقائمة أسراها عند إسرائيل وسلطة رام الله. وفتح تشعر بخطورة ابتعاد المفاتيح عنها عندما تسرّب إدارة أوباما إشارات إلى رغبتها في البحث عن «معتدلين» في الجانب المتشدّد من العالمين العربي والإسلامي. يخشى أبو مازن من ضياع ميزة المعتدل فيقترب، لكنّه سرعان ما يعود لأنّ الاقتراب يعني طمس الحدود بين الفلسطيني الطيّب والمشاكس. ولأنّ المعتدل ليس لديه ما يتنازل عنه أكثر، فإنّه يرجع نصف خطوة و«تخبط» المفاوضات كلها في حائط مسدود.
تسير مفاوضات القاهرة على «شعرة رفيعة» كل طرف محاصر في مواقفه، إن تزحزح عنها فسيفقد وجوده كله. «أرض المناورات» ضيقة جداً في ما يتعلّق بالمصالحة. الأطراف كلها لا يمكن أن تعيش منفردة. لا السلطة باعتدالها ولا حماس بتطرفها. إنه تفاوض «وجود لا حدود»، وجود الكيانات بهويتها القديمة، وإن كان المطروح ذوبانها في تكوينات أكبر (لا يعلم أحد من المتفاوضين طبيعته أو دوره) لا إعلان الحدود الفاصلة بينهما.
ربما لأن الحركة خارج المحيط العربي واسعة وسريعة. أميركا في عهد أوباما أقل شغفاً بتحقيق انتصارات خارجية. طاقتها الكبرى في اتجاه «إعادة البناء» وحركتها للخارج سريعة ومفاجئة وتصبّ كلّها في ترتيب الأوضاع على الوضع «صامت». لا انقلابات، ولا عداءات جديدة، بل هناك رغبة تكبر بالاعتراف بالخصوم (لم يعد الإسلام الراديكالي هو العدو الأخضر... لكنه واقع لا بد من الاعتراف به والتعامل معه كما يبدو من خطاب جديد يتبلور في الإعلام الأميركي).
انتهت الحرب على الإرهاب بخسارة واقعية لأميركا. وأوباما يسعى من خلال تجديد صورة أميركا إلى إغلاق جبهات الحرب بطريقة ذكية تتيح لوكلاء في المنطقة إدارة المواقع. هوية الوكلاء ستتغيّر. تريدها الإدارة الشابّة «خلطة تذيب المعتدل والمتشدّد». وهذا يمنح المفاوضات قوتها بالنسبة إلى أميركا، وقلقها الكبير بالنسبة إلى الأطراف التي ستدخل المرحلة الجديدة بدون مرجعياتها القديمة.
هكذا يدخل المتفاوضون ورعاتهم عملية لا يعرفون مداها. يحاولون إنجازها بلهفة الإنجاز والشوق إلى انتصارات صغيرة على الطاولات تمنحهم بعض التماسك في المرحلة القادمة.
مفاوضات متوتّرة يتفاوت إيقاعها من التضامن بين الخصوم (فتح وحماس) والرعاة (مصر) ضد الأجندة الغامضة إلى حركة النصف خطوة العكسية... والدفاع عن «الموقع المتاح الآن».
مصر انزعجت من مؤتمر لندن عن الرقابة على سلاح غزة. كان ردّها عصبياً على لسان المتحدّث باسم الخارجية. قال إن «مصر لا تعنيها تلك الاجتماعات تماماً، ولا تمتّ لها بصلة، وإنها لن تشارك في أي تفاهمات تتمّ بين إسرائيل وأميركا أو أي دولة أوروبية، لأنّ ذلك لا يعني لمصر شيئاً...».
الاجتماع هو الثاني بعد مؤتمر كوبنهاغن واشتركت فيه ٧ دول أوروبية، إضافة إلى كندا والولايات المتحدة. وكانت محور نقاشاته وقف تهريب الأسلحة إلى غزة بدون دعوة الإدارة المصرية. هذا يعني أن إيقاع الحركة الخارجية يساعد على توتّر المفاوضين والرعاة. وكأنّ مهمّتهم جميعاً إنجاز «جزء» من جبل جليد ما زال مختفياً تحت الماء.
الأمر نفسه يتكرّر باختلاف مع أزمة البشير. الأزمة كشفت عن الوضع الهش الذي يعيشه السودان. والحركة الوحيدة المتاحة أمامه هي التهديد بالسير إلى المدى الأخير «أنا أو السودان». سير على «الشعرة الرفيعة». مصر تساند البشير، وهي تتصور أنه في مأزق فيفاجئها برفض اقتراحها بالمؤتمر الدولي، لأنه قد يقرر مسائل «لا ترضى عنها الحكومة السودانية». إنها حركة نصف الخطوة التي يعود فيها نظام البشير إلى الطريق المسدود: السودان في مواجهة الجميع.
وزير خارجية مصر اضطر للتوضيح: «المؤتمر ليس اقتراحنا، هو اقتراح قدمناه ووافقت عليه الجامعة العربية». توضيح يعني أن سعي مصر لموقع الراعي لخروج النظام السوداني من مأزقه يتعرّض لمراوحات تذكّر بالحالة العصبية لصدام حسين في أيّامه الأخيرة.
البشير قال في أقوى استعراضاته إن المحكمة تحت حذائه، وأعلن أنه سيمثّل بلاده في مؤتمر الدوحة، مصرّاً على دخول مقامرة واسعة يدرك فيها أنه سيضع قطر أمام اختبارات من نوع «نصف الخطوة».
والمقامرة ليست في تحدّي العدالة الدولية، في أنه يرهن وضع بلاده بنصف الخطوة المتاحة أمامه للحركة.