بيرج طرابلسي *تبادر إلى ذهن العديدين ممّن تابعوا إطلاق وثيقة «شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان» السؤال الآتي: هل تُعبّر هذه الوثيقة حقاً عن تعليم الكنائس المسيحيّة في لبنان وعن خبرتها في الشؤون الإنسانيّة؟ سنكتفي بإدراج بعض الملاحظات حول هذه الوثيقة، لعلّنا نقدّم مساهمة متواضعة في تقويم نصّ الشرعة.
في تقديم الشرعة وشكلها
ــــ حاول معدّو الشرعة إعطاء الطابع «المسكوني» (أي العام والشامل والعابر للكنائس) للوثيقة. لكنّ الوثيقة تبقى نصًّا مارونيًّا بامتياز، لارتكازها في مجملها على نصوص ووثائق وخطابات باباويّة ومارونيّة، ولافتقارها إلى وثائق أرثوذكسيّة وإنجيليّة، ممّا أفقدها مصداقيّتها كنص كنسي جامع.
بالطبع، لن ندخل في الجدل بشأن صوابيّة تلك الأفكار أو عدمها، ولن نشرح هنا ضعف الوثيقة من ناحية التطرّق إلى العديد من المسائل اللاهوتيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، من دون الغوص جدّيًا في معالجتها.
ـــــ استعمل معدّو الشرعة، في تقديمهم للوثيقة، عبارة «الكنيسة في لبنان» وذلك في الإشارة إلى مجمل الكنائس في لبنان. ما هي مقوّمات هذه «الكنيسة» وما هي هيكليّتها؟ وهل تشاوَر ممثّلو الكنائس في اللجنة المشتركة مع كلّ الكنائس في لبنان؟ هل اطّلع كل الأساقفة والقساوسة واللاهوتيّين والمعلّمين وأصحاب المعرفة في الكنائس كلها على مسودة الوثيقة؟ هل تمّت الموافقة على مضمونها والتّصويت عليها وتبنّيها وفق الإجراءات المجمعيّة المتّبعة في كلّ كنيسة؟ أين تمّت الموافقة ومتى؟ أما في حال تفرّد أحد أعضاء أيّ مجمع كنسي، أكان رئيسه أم بعضاً من أعضائه، في الموافقة على هذا النص، فهل يكون تفرّد كهذا كافيًا لفرض النص على الكنيسة جمعاء؟ من جهة أخرى، هل تتبنّى الكنائس الأرثوذكسيّة والإنجيليّة، على سبيل المثال لا الحصر، تعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة بشأن «تثقيف الضمائر»؟
ــــ أشار معدّو الشرعة إلى خبرة الكنيسة الطويلة عبر الأجيال في الشؤون الإنسانيّة، «مستندة إلى تعليم واسع ومعمّق في الاجتماع والتربية والاقتصاد والسياسة». هل هناك خبرة كنسيّة حقّة في الاجتماع والتربية والاقتصاد والسياسة؟ إلى خبرة أيّة كنيسة تُشير الوثيقة هنا؟ هل تُشير مثلاً إلى خبرة الكنائس المسيحيّة بمجملها في الشرق الأوسط، في زمن الفتوحات الإسلاميّة والسلطنة العثمانيّة في إطار نظام الملل والذميّة، أو تشير إلى خبرة الكنائس الكاثوليكيّة والإنجيليّة في أوروبا في زمن الإصلاح وعصر التنوير والثورة الفرنسيّة، أو تُشير إلى تجربة الكنائس الأرثوذكسيّة في روسيا واليونان ودول أوروبا الشرقيّة منذ نشأتها حتى يومنا هذا؟ هل كانت تلك التجارب ناجحة، منَزَّهة من كلّ شائبة، لتمثّل قدوة في المجالَين النظريّ والتطبيقيّ ولتُتبنّى؟
في تعليم الشرعة ومبادئها
ــــ أتتْ الوثيقة على ذكر المسيح الرب ونهجه وتعليمه، واستشهدت بقوله: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، هذا القول الوارد في كلّ من (متّى 22: 21 ومرقس 12: 17)، وليس كما نصّت الشرعة خطأ في (مرقس 10: 13ــــ15)، للقول إنّ «ممارسة السلطة تخضع لشريعة الله الأخلاقيّة» (الشرعة، ص 6). فلو قرأنا المقطع الكتابيّ، لوجدنا أنّه يشير إلى يسوع الذي كان يَعلم خبث الفرّيسيّين والهيرودسيّين الذين أرادوا أن يُجرّبوه ليوقعوا به، ويفرضوا عليه مواجهة السلطات الرومانيّة.
لقد ميّز يسوع المسيح بين ما هو لله (أي سلطة الله الرّوحيّة) وما هو لقيصر (أي سلطة قيصر السياسيّة)، ولم يهتم بالشؤون السياسيّة اليهوديّة، ولم يسع لإقامة ملكوته على الأرض، كما أنّه لم يحث تلاميذه على الانخراط في الشأن السياسيّ العام أو حتى العمل في إدارة المؤسّسات الدينيّة، كالهيكل أو السنهدريم.
من جهة أخرى، لم يُطلق يسوع أيّ تعليم ضدّ الرومانيّين المسيطرين على كلّ من اليهوديّة والسامرة ولم يدعُ تلامذته إلى مقاومتهم. بل دعا سامعيه إلى أن يُحبّوا أعداءهم ويُباركوا لاعنيهم (متّى 5: 44 ــــ 45). وعلى الصعيد الاجتماعي، أرسى يسوع قاعدته الذهبيّة قائلاً: «فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ» (متّى 7: 12)، حاثًّا أتباعه على الاهتمام بالجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والمحبوس (متى 25: 35ــــ36)، كما فعل هو تحقيقًا لنبوءة إشعياء التي تلاها في مجمع النّاصرة (لوقا 4: 18).
من جهة أخرى، يكفي أن نشير إلى أنّ يسوع المسيح لم يسع أبدًا إلى مهادنة الفرّيسيّين والكَتبة والصدوقيّين ومسايرتهم، بل انتقدهم وصنّفهم بأنّهم «مراؤون» (متّى 23: 27)، «أبناء قتلة الأنبياء» (متّى 23: 31)، «حيّات وأولاد الأفاعي» (متّى 23: 33). أمّا بولس الرسول، فدعا المؤمنين إلى رفع الصلوات والابتهالات والتشكّرات لأجل جميع الناس، بمن فيهم الملوك وكلّ مَن هو في منصب رفيع «كَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ» (1 تيموثاوس 2: 1ــــ2).
ــــ تتحدّث الشرعة عن حقّ الكنيسة في «أن تعطي «حكمها الأدبي» في جميع الشؤون، بما فيها الشأن السياسيّ» (الشرعة، ص 16). ونسأل عرضًا، لمَ لا يحق للسياسيّين إعطاء «حكمهم الأدبي» في المسائل الكنسيّة، إداريّة كانت أم عقائديّة؟ فكما أنّ للأسقف، مثلاً، الحقّ في إبداء رأيه في الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة مستندًا إلى حقّ الإنسان الطبيعيّ في حرية الرأي والتعبير، هكذا، يمكن للسياسي أن يبدي رأيه في الشؤون الكنسيّة، مستنداً إلى الحقّ نفسه.
لقد أراد معدّو الوثيقة، بحسب اعتقادنا، أن يؤكّدوا ضمنياً أنّ للكنيسة «سلطة معنويّة أعلى» (الشرعة، ص 14) من جهة، وأنّها تسعى لشراكة حقيقيّة في التنسيق والتخطيط المشترك مع الدولة، وهذا بحدّ ذاته تناقض مثير للجدل.
ــــ تؤكدّ الشرعة أنّ «الدولة مهما كان لونها ونظامها، ينبغي عليها أن تستنجد بالقيم الروحيّة» (الشرعة، ص 15). ما هي هذه القيم الروحيّة التي وجب على الدولة اللبنانيّة أن تستنجد بها؟ هل هي مثلاً القيم المسيحيّة، أو القيم الإسلاميّة، أو قيم الأديان الآسيويّة، أو القيم الإنسانيّة اللادينيّة؟ إذًا، الشراكة التي تُطالب بها الشرعة ليست سوى مشاركة الكنيسة للدولة في الإدارة واتخاذ القرارات.
مشكلة الشرعة أنّها تطالب بإنشاء دولة مدنيّة قائمة على «التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة» و«ممارسة الديموقراطيّة ممارسة صحيحة ونشر ثقافتها والتوفيق بين المواطنة والتعدّديّة» (الشرعة، ص 35ــــ36)، كما تطالب بأن تكون السلطة الأعلى وبأن تشارك الكنيسة الدولة، إذ لا ترى مكانًا للادينيّين في المجتمع.
ــــ تطرّق معدّو الشرعة إلى مسألة «توجيه الضمائر» (الشرعة، ص 17)، من دون إعطاء أي تفسير لمصطلح «ضمير». ما هو الضمير؟ «الضمير» في تعريفه المبسّط هو قدرة الإنسان الباطنيّة على التمييز بين الخير والشرّ، الحقّ والباطل، الصواب والخطأ. يعتبر بعضهم أنّ الوعي الذاتيّ وإمكان إصدار الأحكام والقدرة الأخلاقيّة هي من الصفات المتعدّدة التي وضعها الله في الإنسان عندما خلقه على صورته (تكوين 1: 27). ويبقى السؤال: هل الضمير، إذًا، صفة إلهيّة في الإنسان أو حتى صوت الله في الإنسان (المادّة 29ج تميّز بين صوت الله والضمير!) (الشرعة، ص 53)، أم هو مهارة يمكن اقتناؤها وتطويرها عن طريق العلم والممارسة، والتقيّد بالقوانين التي تميّز الخير من الشر. ففي الحالة الأولى، لا يمكن توجيه صوت الله في الإنسان، وفي الحالة الثانية، يصبح الضمير خاضعًا لنسبيّة كلّ نظام أخلاقيّ، وبخاصّة في تحديده للخير والشرّ.
ــــ تعتبر الشرعة أن «المشاركة (في الحياة السّياسيّة) واجبة على المسيحيّين بحكم معموديّتهم» (الشرعة، ص 19). وهنا نسأل: ما دخل المعموديّة في المشاركة في العمل السياسيّ؟ يتعمد الإنسان على اسم الآب والابن والروح القدس ليصير عضوًا في جسد المسيح، لا ليكون مواطنًا أرضيًا، بل مواطنًا سماويّاً. ثمّ، لماذا اعتبار المشاركة «واجبة من أجل بثّ روح الإنجيل في النظام الزمني: في التشريع والإدارة والقضاء والاقتصاد والاجتماع والثقافة» (الشرعة، ص 19)؟ وهنا نسأل: هل المشاركة هي واجب أم حقّ وخيار في إطار الحرية؟ لقد مدحت الوثيقة ضمنيًا أولئك الذين لا يفصلون بين الواجب نحو الدولة والواجب نحو الله. وماذا لو كان الواجب نحو الدولة يعارض الواجب نحو الله؟ بالطبع، «يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ»، كما قال بطرس الرّسول والرّسل (أعمال 5: 29).
ــــ تضع الشرعة أربعة شروط للمرشّح إلى الانتخابات النيابيّة (المادة 29) (الشرعة، ص 52ــــ53)، وكانت قد حدّدت الشرعة سابقًا 7 ميزات للمسيحيّين الذين يريدون ممارسة السلطة السياسيّة (الشرعة، ص 20ــــ22). إلا أنّها لم تأت على ذكر إجراءاتها بحقّ السياسيّين الذين يخالفون تعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة في العديد من المسائل الأخلاقيّة. فلو توقّفنا عند الميزة الثالثة عن «الشهادة للقيم الإنسانيّة والإنجيليّة» (الشرعة، ص 21)، نسأل، على سبيل الافتراض: إذا كان السياسيّ أو الإعلامي المنخرط في العمل السياسيّ قاتلاً أو زانيًا، فهل تتدخّل الكنيسة ضدّه كونه لا يعيش الأخلاق الإنجيليّة؟ وإذا أراد السياسيّ أن يشرّع للموت الرحيم والإجهاض وغيرها من الأمور، فهل يحقّ للكنيسة أن توجّه الناس ضدّ هذا السياسي أو الإعلامي، وخصوصًا أنّ الشرعة تؤكّد «أن المسيحي لا يعيش حياتين متوازيتين: حياة روحيّة لها قيمها ومقتضياتها، وحياة علمانية لها قيم مختلفة عن الأولى ومضادة لها» (الشرعة، ص 20)؟
ــــ لقد وضعت الشرعة اللبنانيّين أمام واجب «مقدس» وهو الدّفاع عن نهائية الكيان اللبناني. ما هي مقوّمات «قدسية» هذا الواجب؟ وهل من لا نهائيّة لأيّ كيان؟ بالطبع، الفكر المسيحي يشدّد على زوال كل الأشياء الأرضية والدنيويّة، ويبقى هدف المسيحيّين الوحيد هو بلوغ المدينة العتيدة، لأنه ليس للمؤمنين هنا مدينة باقِية (عبرانيين 13: 14). كما اعتمد معدّو الوثيقة التعميم في تقديمهم للمبادئ المسيحيّة في العمل السياسيّ، إذ اعتبروا أنّ العمل السياسيّ هو «الطريق الصعب لعيش الالتزام المسيحي في خدمة الآخرين» (الشرعة، ص 23). فهل الشركاء في الوطن، من أتباع الديانات الأخرى، وبخاصّة الإسلاميّة، مدعوّون إلى عيش الالتزام المسيحي؟ وكيف؟ من جهة أخرى، يحقّ لأيّ مواطن أن يسأل: ماذا لو أراد المواطن المسلم في لبنان أن يبثّ روح القرآن في النظام الزمني: في التشريع والإدارة والقضاء والاقتصاد والاجتماع والثقافة، كيف سيكون عليه الوضع في ظلّ مسارَين مختلفين؟ وعن أيّ دولة مدنيّة تتحدّث الشرعة؟
يبقى، أخيراً، أن نُشير إلى أنّنا نعتقد أنّ هذه الوثيقة ستبقى غير قابلة للتّنفيذ إن لم تُعَد صياغتها جديًّا، لتصبح على شاكلة الوثائق الفاتيكانيّة المتميّزة بالدقة وبالعمق الفكري، على الرغم من اختلاف الكنائس على مضمونها، وهي وثائق يعدّها ويصوغها كبار اللاهوتيّين الكاثوليك، نذكر منهم البابا بندكتوس الساس عشر (الكردينال جوزف راتزنغر رئيس مجمع عقيدة الإيمان سابقًا). ومع ذلك، يكفي أن نُشير إلى أنّ الوثائق الفاتيكانيّة هي بطبيعتها مُلزِمة لكل الكنائس التي هي في «سلام وشراكة» مع الكنيسة الباباويّة. أمّا هذه الشرعة التي بين أيدينا اليوم، فستبقى غير قابلة للتنفيذ، وخصوصًا أنّ خبرة الكنيسة المارونيّة في تسويق وثائقها ذات الطابع السياسي أو الإعلامي، غالبًا ما تصطدم بمعارضة «أهل البيت»، هذا البيت المنقسم على ذاته. كما أنّها غير صالحة للتعميم في كل من الكنائس الأرثوذكسيّة والإنجيليّة، لما تحتويه من أخطاء ومغالطات فكريّة، لاهوتيّة وسياسيّة.
* باحث وأستاذ جامعي